منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات تعليمية

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات المعلم القدوة التعليمية
منتديات تعليمية
منتديات المعلم القدوة التعليمية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اذهب الى الأسفل
حمدي عبد الجليل
حمدي عبد الجليل
المشرف العام
المشرف العام
ذكر عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28271
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
التحرك نحو القادسية 1393418480781

التحرك نحو القادسية 140

التحرك نحو القادسية Empty التحرك نحو القادسية

الأحد 29 يناير 2012, 21:26
التحرك نحو القادسية

د. راغب السرجاني



مقدمة:

بعد أن تحرك سعد بن أبي وقَّاص رضى الله عنه بالجيش
الإسلامي الذاهب لحرب الفرس من منطقة "زَرُود" ووصل إلى "شَرَاف"، وكان
قوام الجيش الإسلامي الذي معه قد وصل إلى 32 ألف جندي، ووصلته الرسالة
العمرية الخالدة التي تُعدّ نموذجًا رائعًا للوصايا التي يمكن أن يوصِي بها
الأمراء مَنْ يكلفونهم بالجيوش، واستقرَّ سعد رضى الله عنه في "شراف" منتظرًا أوامر جديدة تأتي من المدينة المنورة.


وصلت رسالة أخرى من عمر بن الخطاب رضى الله عنه بتعبئة
الجيش (أي: بتنظيمه وترتيبه وكأنه على قتال)، وأمره بالتحرُّك من "شراف"
إلى "القادسية" وهو على تعبئةٍ كاملةٍ حتى إذا باغتته جيوش فارسٍ في أية
لحظة يكون على استعداد كاملٍ لها.


بدأ سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه يرتِّب
جيشه وهو في "شراف"، فجعل خليفته خالد بن عرفطة وهو أحد فرسان العرب
المشهورين، ولم يتوجه لحرب فارس قبل ذلك، وجعل على المقدمة زهرة بن
الحُوِيَّة، وكانت لكل الجيوش الإسلامية مقدمات، ولكن سعدًا رضى الله عنه جعل
لجيشه مقدمة وطلائع، وكانت فرقة الطلائع من أشد فرسان المسلمين مهارة
وجسارة وقوة، واختار لهذه الطلائع قوة من كل القبائل، وكانت تحت إمرة سواد
بن مالك، وكانت مهمة الطلائع أن تسير في مقدمة الجيش أبعد من مرمى بصر
الجيش، لتكون عيونًا على الجيش الفارسي؛ حتى لا يُباغِت الجيشَ الإسلاميَّ،
وتلي المقدمةُ الطلائعَ.


وجعل
على المقدمة عبد الله بن المعتم، وعلى الميسرة شُرَحْبِيل بن السِّمْط،
وعلى المشاة حَمَّال بن مالك، وعلى الخيول سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان من
المعروف أن أشد خيول العرب في قبيلة باهلة، وجعل عبد الله الخثعمي على
الركبان وهي الإبل، وجعل على مؤخرة الجيش عاصم بن عمرو التميمي، صاحب السبق
العظيم في حروب فارس قبل هذه الموقعة.


وجعل
كل مجموعة من جيشه تحت إمرة أمير، ثم قسَّم المجموعات إلى رايات، وتحت
أمراء الرايات رؤساء القبائل، وتحت كل قبيلة العرفاء، أي على كل عشرة من
الجند عريف، فالسُّلَّمُ هرميٌّ، فعلى كل عشرة عريف، وعلى كل مائةٍ رئيس
قبيلة، وعلى كل ألف حامي الراية، وعلى كل المجموعة أمير الفرقة سواءً كانت
مقدمة أو مؤخرة أو ميمنة أو ميسرة؛ وذلك حتى تصل الأمور بسهولة ويُسْر إلى
كل الأفراد.


وتحرك الجيش الإسلامي الكبير على هذه التعبئة من "شراف" إلى الشمال متجهًا إلى "القادسية"، وفي طريقه وصلته رسالة من عمر بن الخطاب t أنِ انْزل بجيشك في عُذَيب الهِجانات (منطقة تبعد عن القادسية بعدة أميال)، وأرسِلْ طلائعك إلى القادسية فهي باب فارس.

كان
في هذا الجيش الإسلامي بضعة وسبعون ممن شهدوا بدرًا، وكانوا يُسمُّونهم
"البدريين"، وكان في الجيش أيضًا ثلاثمائة ممن له صحبة بعد بيعة الرضوان،
وثلاثمائة ممن شهدوا
فتح مكة، وسبعمائة من أبناء الصحابة، فكانت هذه ذخيرة قوية للمسلمين.

زوّد عمر بن الخطاب رضى الله عنه الجيش
بالأطباء والقضاة، فكان على إمرة القضاة عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، وهو
أخو سلمان بن ربيعة الباهلي القائد على الخيول في الموقعة، وكان رائد
الجيش وداعيته
سلمان الفارسي رضى الله عنه .

وجعل كاتب الجيش زياد بن أبي سفيان، وجعل مترجم الجيش هلال الهجري وكان يُتْقِن الفارسية والعربية.

وأثناء تحرُّك سعد رضى الله عنه من "شِرَاف" إلى "عذيب الهجانات" أتته الوصية التي كان قد أوصى بها المثنى بن حارثة رضى الله عنه قبل
وفاته مع المُعَنَّى بن حارثة، وفي الرسالة: لا تقاتل الفرس إلا على أبواب
الصحراء، ولا تعبر نهرًا، وَضَعِ الصحراء في خلفك، حتى إذا كان لك النصر
انسحت في أرضهم، وإن كانت الأخرى كانت لك الصحراء مجالاً للرجوع.


وتنطلق
هذه الوصية من الاستفادة من خطأ معركة الجسر، وهو عبور المسلمين النهر،
فكانت المياه من خلفهم والفرس من أمامهم، واستُشْهِد في "الجسر" وحدها
أربعة آلاف من المسلمين، وكان الفرس لا يجرءون على القتال في الصحراء؛
نظرًا لتعدد الدروب والمسالك وكثرة المجاهل بها، وإذا ضلَّ أحد الجيوش فيها
فربما يهلك من الجوع والعطش.


ومع وصول رسالة المثنى مع المُعنَّى، وصلت رسالة من عمر بن الخطاب رضى الله عنه أيضًا فيها: ألاّ يقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، وألا يجعل المياه في خلفه، وأن يجعل الصحراء خلف جيشه.

وكان هذا التوافق في الرأي يدل على بعد النظر وعمق التفكير، فقد استفاد المثنى بن حارثة رضى الله عنه كثيرًا من تجاربه السابقة، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه وهو في المدينة يرى الرأي الصائب وهو على بُعد مئات الأميال من القادسية؛ لعمق فكره وحسن تخطيطه وإدارته رضى الله عنه .
القبض على عين للفرس

ويرسل سعد رضى الله عنه طلائعه
إلى "عُذَيب الهجانات" قبل أن يصلها هو بالجيش، وكان بها حصن عظيم وهو أول
حصون في جنوب فارس، وقد وصلت الطلائع قرب الليل ونظروا فوجدوا للحصن نوافذ
كثيرة، وكل مدة يظهر أحد الرجال من إحدى نوافذ الحصن ويختفي مرة أخرى، ثم
يظهر آخر في نافذة أخرى ويختفي، وهكذا.


فوقفوا
رهبة، وشعروا بوجود جيش للفرس في هذا الحصن، ثم أمرهم حمّال بن مالك
بالهجوم على الحصن، ففوجئوا بعدم وجود أحد فيه، ووجدوا رجلاً واحدًا يجري
بعيدًا عنهم بفرسه في اتجاه المدائن، فعلموا أنه أحد عيون الفرس، وأنه
منطلق لإخبارهم بأمر المسلمين، وانطلقت خلفه الطلائع فأعجزهم ولم يستطيعوا
اللحاق به، وقدمت بعد ذلك المقدمة وعليها زهرة بن الحُوِيَّة، فلما علم
زهرة بهذا الأمر -أَمْرَ الرجل- قال: والله لو وصل هذا العين إلى فارس،
علمت فارس بقدومنا. فأسرع رضى الله عنه بنفسه
وسابق خيول المسلمين وسبقهم، وأدرك الرجل في خندق سابور على حدود القادسية
واقتتل معه وقتله في خندق سابور، وبهذا لم تصل -حتى هذه اللحظة- أخبار
المسلمين إلى فارس بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا المثال النادر من المسلمين
"زهرة بن الحُوِيَّة"، والذي أحسنَ سعد بن أبي وقاص باختياره قائدًا على
المقدمة.


وقبل أن يصل سعد رضى الله عنه إلى "عُذيب الهجانات" تصله رسالة من عمر بن الخطاب t أن يعسكر في القادسية، وقال له: صِفْ لي المكان كأني أراه رأي العين، ولا تدخل على أرض العراق إلا أن يدخلوا هم عليك.

ويتقدم سعد رضى الله عنه ويصل
إلى "عُذَيْب الهِجانات" ويعسكر فيها مدة، إلى أن تكتشف الطلائعُ
والمقدمةُ منطقةَ القادسية وما حولها لتأمين دخول الجيش هذه المنطقة.


تختلف
خطة الجيش الإسلامي في معركة القادسية عن غيرها من الخطط في المعارك
الأخرى، ومن الواضح في معارك الجيش الإسلامي الكثيرة، ومواقعه المتعددة أنه
يعتمد خطة الهجوم على الجيوش الفارسية في مواقعها، لكن هذه المرة يأمر عمر
بن الخطاب رضى الله عنه الجيش
أن يبقى في القادسية ولا يتركها؛ لخوفه من الإعداد الضخم الذي يُعِدُّه
الفرس لهذه المعركة، ويحرص على عدم توغل المسلمين في الأراضي الفارسية؛
حفاظًا عليهم من الهلكة.

حل مشكلة الغذاء

كان وصول سعد رضى الله عنه "عذيب
الهجانات" في منتصف صفر 15هـ، وعسكر فيها ما يقرب من شهر، وإذا نظرنا إلى
العدد الكبير للجيش الإسلامي (32 ألفًا من الجنود)، نجد أنهم كانوا بحاجة
دائمة إلى التموينات، وإذا أرادوا أن يأكلوا لحومًا مثلاً كانت الناقة تكفي
مائة جندي، ففي اليوم يحتاج إلى 320 من الجمال، فالجيش إذن يحتاج إلى
تمويل ضخم جدًّا، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه يموِّن
الجيش من بيت مال المسلمين، لكن مهما كان حجم ما يأتي من المدينة فلا شك
أنه سيكون أقل من حاجة الجيش، وهناك نقص كبير في اللحوم خاصةً، فكلما طالت
مدة انتظار الفرس كلما زاد العبء على المسلمين، فبدأ المسلمون بعمل ما
يُسمَّى بالغارات التموينية تحفيزًا لإسراع الفرس في القدوم للحرب، وفي
الوقت نفسه يتمُّ تموين الجيش من خلال هذه الغارات.


أمر سعد رضى الله عنه الطلائع
والمقدمة بعمل هذه الغارات، وأرسل زهرة بن الحُوِيَّة -وهو في "عذيب
الهجانات"- فرقة من طلائعه إلى مكان يُسمَّى صِنَّينَ (وهي على بعد 10 إلى
15 كم من الحيرة)، وعلى رأس الفرقة التي لا تتعدى الثلاثين فارسًا بكير بن
عبد الله، وتصل الفرقة إلى "صنين" فيسمعون أصوات عُرسٍ لأحد أمراء فارس،
ولا شك أن في العرس هدايا ثمينة يهديها الأمراء بعضهم لبعض في هذه
المناسبات إلى جانب الماشية والأغنام والإبل وغير ذلك، وينتظر بشير بن عبد
الله في وسط الغابات التي كانت منتشرة في تلك المنطقة، وعند مرور العرس
ووصول الحامية التي ترافق العرس فهو عرس أميري؛ هجمت الفرقة عليهم ففروا في
كل وجهة وتركوا العُرسَ بما فيه، وسبى المسلمون العروسَ والتوابع، وأخذوا
الغنائم وعادوا بها، وقبل أن يَصِلُوا كبَّروا، فقال سعد رضى الله عنه لجنوده: أقسم أن هذه تكبيرة قومٍ عُرفت فيهم العز.


فكانت
هذه أول الغارات التموينية للمسلمين، وكان فيها إهانة كبيرة لأحد أمراء
فارس في زواجه، وبدأ أهل تلك المنطقة يراسلون يزدجرد في المدائن ويخبروه أن
جيوش المسلمين على مقربة.


ثم
أرسل زهرةُ بن الحُوِيَّة عاصمَ بن عمرو التميمي -وكان قائدًا للمؤخرة-
نظرًا لشجاعته إلى منطقة "مَيْسان" شرق الفرات، ووجدوا مجموعة كبيرة من
الفلاحين ولكن دون أن يكون معهم أغنام، فتعجبوا من هذا الأمر وهو عدم وجود
إبل وماشية في هذه المنطقة الزراعية، فقام أحد الفلاحين وقال: والله ما في
هذا المكان من إبل ولا ماشية قَطُّ. فخار ثور ساعتها يكذب الراعي، وذهب
المسلمون إلى مصدر الصوت في وسط الغابات الكثيفة، فوجدوا كميات ضخمة من
المواشي، وساقوها للجيش، وسُمِّيَ هذا اليوم بيوم الأباقر من كثرة ما أخذوا
فيه من البقر، وكان في هذا تموين للجيش فترة كبيرة.


أرسل الأمراء على الفور إلى يزدجرد، وبدأ الفرس يتأثرون ويتحمسون لوقف المسلمين عن شن هذه الغارات التي تقلقهم كثيرًا.

في هذا التوقيت أرسل عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد
أن علم بهذه الأحداث -الغارات التموينية- وبعد أن خشي من اندفاع المسلمين
لقتال الفرس في أراضيهم، فقال: "الصبرَ الصبرَ، فإن المعونة تأتي من الله
على قدر النية، والأجر على قدر الجهد، والحذرَ الحذرَ على ما أنت عليه، وما
أنت بسبيله، واسألوا الله العافيةَ، وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا
بالله، وخَفِ اللهَ وارْجُهُ، ولا تغترَّ بشيء. واعلم أن الله قد وعدكم،
وتوكَّل لهذا الأمر، فاحذر أن تصرفه عنك فيستبدل بكم غيركم، وصفْ لي
مساكنكم كأني أراها، واجعلني من أمركم على الجلية".


ويرسل سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه رسالة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه يصف له القادسية يقول:

"القادسية
مكان بين نهر العتيق وخندق سابور". القادسية هي مكان يقع في الجنوب الغربي
للحيرة على أبواب الصحراء، ونهر العتيق هو أحد روافد نهر الفرات يخرج منه
متجهًا إلى الغرب، وخندق سابور يقع جنوبي منطقة القادسية، وهو خندق قديم
للفرس يحاصر معظم غرب العراق، وفيه بعض الأماكن التي يمكن العبور منها، لكن
على كلٍّ منها حصنٌ عظيم لمنع عبور أي مجموعة، وأمام القنطرة الرئيسية
للخندق يقع حصن يُسمى "قديس".


يقول سعد رضى الله عنه :

"وعن
يمين منطقة القادسية فيض من فيوضهم (أي بحيرة تصل من نهر العتيق وحتى خندق
سابور)، وفي شمال القادسية بحر أخضر" أي مستنقع به ماء وشجر كثير.


وعندما وصلت الرسالة إلى عمر رضى الله عنه قال له: "الزم مكانك".

ثم
يقول له: "إذا منحك الله أكتافهم، فلا تتركهم حتى تغزو المدائن فإن في ذلك
خرابها، والوفاءَ الوفاءَ، فإن الخطأ في الغدر هلكة (أي يوصيه بالوفاء
لأهل القرى التي ما زالت على صلحها مع المسلمين) وفيه (أي الغدر) وَهَنُكم
وقوة عدوكم، واحذروا أن تكونوا شينًا على المسلمين".


بعد أن سيطرت الطلائع والمقدمة على حصن "قديس"، كان الجيش الإسلامي ما زال في مكانه لم يعبر خندق سابور بعد، وإن كان في نيته العبور.
حال البلاط الفارسي في ذلك الوقت

كان
أمراء الفرس يضجون كثيرًا، ويرفعون الشكاوى إلى يزدجرد الثالث كسرى فارس
مما يفعله المسلمون في الجنوب، فأرسل إلى رستم -أعظم قائد فارسي على مر
التاريخ- وقال له: أتعلم مثل العرب ومثلنا كمثل ماذا؟


فيقول له: مثل ماذا؟

فيقول
يزدجرد: مثلنا ومثلهم كمثل عُقاب (طائر ضخم) نزل على وادٍ، وفي هذا الوادي
طيور صغيرة كثيرة، وفي كل لحظة ينزل فيخطف طائرًا ويعود، ثم ينزل فيخطف
طائرًا ويعود، فأرى أنه لو قامت هذه الطيور كلها مرةً واحدة فرَّ منها هذا
العُقاب، وإن حدثت هلكة فهي لطائر واحد.


وفهم
رستم من كلامه أنه يريد أن يُخرِج كل طاقة فارس لحرب المسلمين، ثم قالها
له: إني أرى أن تخرج طاقة فارس في جيش واحد لملاقاة المسلمين، وتخرج أنت
على رأس الجيش.


وغضب
رستم من ذلك لا لجبنٍ منه فقد كان قائدًا شجاعًا، لكنه كان يرى أن هذا ليس
رأيًا صائبًا -وقد شهد له المؤرخون بذلك- فقال رستم: الرأي رأيك، لكني أرى
أن نرسل لهم قوة ثم قوة، فإن لاقتهم الفرقة الأولى وهزموا كان لنا بقية،
ثم استبقني هنا فطالما أنا هنا فالعرب على خوفٍ منا.


وتجادلا
وأصرَّ كسرى على رأيه، وأطاعه رستم وخرج على رأس الجيش، بعد أن جمّع
للمسلمين جيشًا ضخمًا كان قوامه 120 ألف مقاتل و120 ألف تابع، أي مائتين
وأربعين ألفًا من الجنود الفارسيين، وهذا أكبر جيش يخرج من فارس على مرِّ
العصور، وتحت إمرة رجل واحد فقط، وفيه مائة وعشرون ألفًا يقاتلون، ومائة
وعشرون ألفًا أخرى يخدمون المقاتلين، ويمكن أن يشتركوا في القتال عند
الحاجة إليهم، فهم بمنزلة مؤخرة الجيش.


وفي
هذا الجيش 60 ألفًا من الفرسان، و60 ألفًا من المشاة، و33 فيلاً، وكان
للفيل الواحد وزنه في الجيش الفارسي، فما بالنا بـ 33 من الأفيال؟! ومن
بينهم الفيل الأبيض قائد الأفيال، وهو الذي قتل أبا عبيد بن مسعود الثقفي
في معركة الجسر، إذن فقوة فارس كلها خرجت لحرب المسلمين.


وتعلم المخابرات الإسلامية أن رستم على رأس الجيش، فيرسل سعد بن أبي وقاص t إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن الفرس يُعِدُّون لنا جيشًا لم نسمع عنه من قبل، على رأسه رستم ومن شابهه.

وقد
كان على رأس مقدمة جيش فارس "جالينوس" وهو أحد القادة الكبار، وكان قوام
المقدمة 40 ألفًا، أي أن مقدمة الفرس وحدها تزيد على كل الجيش المسلم
بثمانية آلاف، ومن بين القواد أيضًا بهمن جاذويه الذي انتصر على المسلمين
في الموقعة الوحيدة التي انتصر فيها الفُرْسُ (الجسر).


وردَّ عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه قائلاً
له: "لا يَفْرِيَنَّك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله
وتَوَكَّلْ عليه". ثم يقول له: "وابعث إليهم رجالاً من أهل الرأي يدعونهم
إلى الإسلام؛ فإن في ذلك وهنًا لهم".

وفد المسلمين إلى كسرى يزدجرد:

ونرى في هذا الموقف حرص عمر بن الخطاب رضى الله عنه على الدعوة إلى الإسلام حتى في هذه الظروف، وإضافة إلى تبليغهم دعوة الإسلام تُرهَب نفوسُهم من جرأة المسلمين عليهم، وبدأ سعد t
في انتقاء الوفد الذي يقابل "يزدجرد الثالث" كسرى فارس، ومرَّ على الجيش
كله، وانتقى 14 رجلاً؛ سبعة من أهل الرأي وسبعة من أهل المهابة. يقول
الرواة: إن الأربعة عشر رجلاً كانوا جميعًا أصحاب هيئة وجسامة، وكانوا
جميعًا يزيدون في طولهم على المترين، وعلى رأسهم النعمان بن مُقَرِّن
الصحابي الجليل رضى الله عنه الذي أسلم في العام الخامس الهجري، وأول مشاهده
غزوة الأحزاب، وأسلم هو وإخوته جميعًا -عشرة إخوة- وشاركوا في فتح فارس، وكان عبد الله بن مسعود رضى الله عنه يقول:
إن للنفاق بيوتًا، وإن للإيمان بيوتًا، وإن بيت بني مُقَرِّن لمن بيوت
الإيمان، وفيهم نزل قول الله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ
اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ
سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[التوبة: 99]. فكان النعمان رضى الله عنه على رأس هذا الوفد، وكان رجلاً ذا مقالة، ومعه بُسر بن أبي رُهم وقد مر ذكره في
فتوح فارس،
ونذكر كمين "الولجة" حيث كان على رأس الكمين. ومن الوفد حنظلة بن الربيع
وكان من خطباء الجاهلية والإسلام، وسُمِّيَ حنظلة الكاتب. وفرات بن حيان
وكان أكثر العرب خبرة بالطرق، وكان قد أسلم في العام الثاني للهجرة. ومع
الوفد أيضًا المغيرة بن زرارة أحد صحابة النبي ، ومن أصحاب المقالة أيضًا
في الجاهلية والإسلام. وعدي بن سهيل وهذا الاسم غير معروف، ويبدو أنه سهيل
بن عدي، ولعله نُقِلَ خطأً.


ومن الوفد أيضًا حَمَلة بن جُويَّة. وكان على رأس أهل المهابة والقوة في الجسد عاصم بن عمرو التميمي رضى الله عنه أخو القعقاع بن عمرو التميمي رضى الله عنه والمُعَنَّى بن حارثة أخو المثنَّى رضي الله عنهما، وعطارد بن حاجب
وهذا الرجل هو الوحيد الذي دخل قبل ذلك إيوان كسرى، ولا شك أنه -في الطريق
ومع الوفد الذي لم يدخل إيوان كسرى قبل ذلك- سيذكر لهم وصفًا دقيقًا لكرسي
كسرى وتاجه وسريره وما يمتلئ به إيوانه من ذهب وفضة وزخارف؛ حتى لا ينبهر
الوفد بما لم يره أو يسمع عنه من قبل، فيكون لذلك نتائجه السلبية، فاختياره
له هدف.


وعمرو
بن معد يكرب وكان من أشهر فرسان العرب، وكان قد فقد إحدى عينيه في سبيل
الله، وكان عمر بن الخطاب يسأل: أي سيوف العرب أمضى؟ قالوا: صمصامة. وهي
صفة من صفات سيف عمرو بن معديكرب؛ فأرسل له: أن أرسل لي سيفك. فأرسله له،
فأمسك به عمر بن الخطاب وضرب به فوجده على غير ما كان يتوقع من القوة
والمتانة، فأرسل إليه: والله كنا نظن سيفك على أحسن من هذا. فقال له: والله
يا أمير المؤمنين لقد أرسلت إليك بالسيف، ولم أرسل إليك بالساعد الذي يضرب
بالسيف.


ومن الوفد أيضًا المغيرة بن شعبة
الحارس الشخصي للرسول ، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسان أشهر فارس في
قبيلة كندة. واختير لهم أفضل أربعة عشر من الخيول، ولبسوا أفضل اللباس،
وخرجوا جميعًا لمقابلة يزدجرد ودعوته إلى الإسلام، وعلم الفرس بقدومهم،
فخرج الشعب الفارسي ليشاهد هؤلاء العرب الذي كانوا يعتقدون أنهم أعراب
أجلاف ليس لهم في الحرب شيء.


تقول
إحدى النساء اللائي أسلمن بعد ذلك: فوقفنا ننظر إليهم، والله ما رأينا
أربعة عشر مثلهم قَطُّ يعادَلون بألف، وإن خيولهم لتنفث غضبًا وتضرب في
الأرض، ووقعت في قلوبنا المهابة وتشاءمنا. وأرسل يزدجرد إلى أهل الرأي
يستشيرهم في مقابلة الرسل المسلمين أم لا، فأشاروا عليه أن يقابلهم، فأمر
يزدجرد بدخول الوفد عليه والحديث معه.

________________________________________________
التحرك نحو القادسية 12107010_906912522734669_1561722651500059538_n
حمدي عبد الجليل
حمدي عبد الجليل
المشرف العام
المشرف العام
ذكر عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28271
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
التحرك نحو القادسية 1393418480781

التحرك نحو القادسية 140

التحرك نحو القادسية Empty رد: التحرك نحو القادسية

الأحد 29 يناير 2012, 21:28
اليوم الأول للقادسية

د. راغب السرجاني


مقدمة

في هذا المقال نلتقي مع يوم من أيام الله تعالى يوم القادسية، هذا اليوم فرق الله عز وجل به بين الحق والباطل؛ يوم القادسية يوم كيوم بدر، وكيوم خيبر، وكيوم اليرموك، إذا كانت هناك أيامٌ تغير من التاريخ، فيوم القادسية من هذه الأيام.
بعد
موقعة القادسية اختلفت خريطة الأرض، واختلفت التوقعات بالنسبة لنتائج
الحروب، واختلفت كل الموازين في الأرض بعد هذه المعركة الفاصلة بين
المسلمين والفُرْس، وإذا كان هناك رجال يغيرون التاريخ، فرجال القادسية
هؤلاء الرجال بمن فيهم أمير الجيوش، وبمن فيهم أصغر جندي لا نعرف اسمه، ولا
نعرف نسبه.

هذا اليوم يُقاسُ في التاريخ بيوم
بدر، وكان الجيش الإسلامي في القادسية يتضمن سبعين رجلاً أو أكثر من رجال
بدر، وهذا أعطى للقادسية أهمية خاصة في التاريخ الإسلامي.

وقف
الجيشان أمام بعضهما البعض، وفي لحظة عبور الجيش الفارسي كان الوقت قد مضى
من أول النهار، وشاء الله في هذا اليوم واليوم الذي قبله أن يمرض
سعد بن أبي وقاص،
فقد أصيب بدمامل في ظهره، وأُصِيبَ بعِرْق النَّسَا؛ فكان لا يستطيع أن
يمشي، ولا يستطيع الجلوس، فلم يكن يستطيع أن يمتطي حصانهُ، فاتخذ قصر
"قديس" مكانًا للقيادة وصعد إلى أعلى القصر، ولم يستطع الجلوس؛ فنام على
صدره على قمة القصر ووضع وسادة تحته، وبدأ بإدارة المعركة من فوق القصر،
واستخلف على الجيوش خالد بن عرفطة الذي كان من قواد المسلمين المهرة، فيقوم
خالد بن عرفطة بقيادة الجيوش ويدير سيدنا سعد بن أبي وقاص المعركة من فوق
القصر متابعًا خالد بن عرفطة بالرسائل التي يرسلها إليه، فينفذها الجيش عن
طريق خالد، واعترض بعض الناس على إمارة سيدنا خالد بن عرفطة، فما كان من
سيدنا سعد بن أبي وقاص إلا أن قام بالقبض على هؤلاء المشاغبين، وكان
يتزعمهم أبو محجن الثقفي، وهو من أشد مقاتلي العرب ضراوة وكان يجيد الشعر
الجهادي، وكان المسلمون يُعوِّلون عليه كثيرًا؛ فقد كان له دور كبير، لكنَّ
سيدنا سعد بن أبي وقاص لم يكن يتهاون في مثل هذه الأمور، وكانت الحرب
الإسلامية حربًا تربوية، فتعمَّد سيدنا سعد بن أبي وقاص حبس هذه المجموعة
في قصر "قديس"، ومنعها من الاشتراك في القتال بسبب اعتراضها، وفي ذلك درس
تربوي مهم رغم قلة عدد المسلمين، ورغم كون المسلمين محتاجين إلى كل جهد
بشري، ولكنها الحرب التربوية كما ذكرنا من قبل.

وأرسل
سيدنا سعد بن أبي وقاص بيانًا إلى المسلمين عن طريق سيدنا خالد بن عرفطة
يقول فيه: أما والله لولا أن عَدُوَّكم بحضرتكم لجعلتكم نكالاً لغيركم.
فقام جرير بن عبد الله وقال: أما إني -واللهِ- بايعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم على أن أطيع أميري، ولو كان عبدًا حبشيًّا. فجاء هذا الكلام
ليؤيد سيدنا سعد بن أبي وقاص في قراره في حبس هذه المجموعة، ثم قال سعد:
واللهِ لا يعود أحدٌ بعدها يشغل المسلمين عن عدوهم إلا سننت فيه سنة تؤخذ
من بعدي. ولم يوضح العقاب؛ وذلك لإثارة الرعب في قلوب المشاغبين ومن يعصي
الأمير في مثل هذا الموقف، ثم كتب سيدنا سعد بن أبي وقاص خطبة ووزعها على
الرسل؛ لتصل إلى كل الجيش وذلك يوم القادسية، يقول فيها سيدنا سعد بن أبي
وقاص: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونثني عليه الخير كله. إن الله هو
الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خُلْف، قال جلَّ ثناؤه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحاها اللهُ لكم منذ ثلاث حجج؛ فأنتم
تطعمون منها، وتأكلون منها، وتجبونها، وتقتلون أهلها، وتسبونهم إلى هذا
اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم، وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم
وجوه العرب وأعيانهم، وخيار كل قبيلة، وعِزُّ مَن وراءكم. فإن تزهدوا في
الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يُقرِّب ذلك
أحدًا إلى أجله، وإن تهنوا تفشلوا وتضعفوا تذهب ريحكم، وتوبقوا آخرتكم".

هذه
خطبة سيدنا سعد بن أبي وقاص في القادسية، والمتأمل في الخطبة يجد أنها
تنقسم إلى أربعة مقاطع: أول هذه المقاطع يذكر للمسلمين أن النصر وارد في
حقهم من خلال الأدلة النقلية التي ذكرت في الكتاب والسنة، فيذكر لهم {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
فهذه حقيقة قررها الله في كتابه؛ فيطمئن المسلمين أن الله سيورثهم هذه
الأرض إن كانوا صالحين، ولا بد لأهل الإيمان أن يصدقوا هذه الحقيقة. ثم
يذكر لهم الأدلة العقلية، فيقول لهم: وقد أباحاها الله لكم منذ ثلاث حجج
وأنتم آكلون من هذه الأرض، وتقتلون أهله، وتأسرونهم، وتنتصرون عليهم منذ
ثلاث سنين، وتفعلون ذلك بما فعل أصحاب الأيام منكم. وبعد ذلك يثني سيدنا
سعد بن أبي وقاص على جمع المسلمين فيقول: "وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم
وجوه العرب، وأعيانهم، وخيار كل قبيلة، وعِزُّ مَن وراءكم". فشكر هذه
الطائفة ولم يبالغ في الثناء، فهذه الطائفة أفضل طوائف العرب، وأفضل
المقاتلين في العرب جمعوا في القادسية، فيعطيهم هذا القدر وتلك القيمة،
فيشعر الناس بعزتهم وبقوتهم مما يدفعهم للقاء عدوهم غير مجبونين، ولا
خائفين من الفرس. ثم يضع يده على مفتاح النصر: "فإن تزهدوا في الدنيا
وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرب ذلك أحدًا إلى
أجله، وإن تهنوا تفشلوا وتضعفوا وتذهب ريحكم، وتوبقوا آخرتكم".

وهذه الكلمات ذكرها سيدنا أبو بكر الصديق رضى الله عنه لسيدنا خالد بن الوليد
في أول فتوحات فارس في وصية قصيرة كانت عبارة عن هذه الجملة: "إنْ تزهدوا
في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، وإن تُؤْثِروا
أمرَ الدنيا على الآخرةِ تُسلَبوهما"؛ فهم سيدنا سعد بن أبي وقاص هذا
المعنى وأراد توصيله إلى الجيش، فحَمَّسَتْ هذه الخطبةُ الناس، وتحفزوا
للقاء الفرس. ثم قام عاصم بن عمرو في المجردة، فقال: هذه بلاد قد أحلَّ
اللَّهُ لكم أهلها، وأنتم تنالون منها منذ ثلاث سنين ما لا ينالون منكم،
وأنتم الأعلون واللَّه معكم إن صبرتم، وصدقتموهم الضرب والطعن فلكم أموالهم
ونساؤهم وأبناؤهم وبلادهم، ولئن خُرْتم وفشلتم -والله لكم من ذلك جار
وحافظ- لم يُبقِ هذا الجمعُ منكم باقية، اللهَ اللهَ، اذكروا الأيام وما
منحكم الله فيها، اجعلوا همَّكم الآخرة، يا معاشر العرب إنكم تخاطرون
بالجنة وهم يخاطرون بالدنيا، فلا يكونُنَّ على دنياهم أحوطَ منكم على
آخرتكم، لا تُحْدِثوا أمرًا تكونون به شَيْنًا على العرب.

ثم
أرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص إلى كل من له كلمة، وكل من له خطابة في
المسلمين حتى يخطب في الجيش ويحفز الناس؛ فقام قيس بن هبيرة فقال: أيها
الناس، احمدوا الله على ما هداكم يزدْكم، واذكروا آلاء الله فإنَّ الجنة أو
الغنيمة أمامكم. ثم يَعْرِضُ للمسلمين بشيءٍ محبَّبٍ إلى النفوس، فيقول
لهم: وإنه ليس وراء هذا القصر -ويقصد قصر قُدَيْس- إلا العَرَاء، والأرض
القَفْر، والظَّراب الخشن (أي التلال الصغيرة)، والفلوات التي لا يقطعها
الأدلة (يريد أنكم تاركون هذه الصحراء إلى جنات فارس الخضراء). ثم يقوم
غالب بن عبد الله
فيقول: أيها الناس، احمدوا اللهَ على ما أبلاكم، وسَلُوه يَزِدْكم، وادعوه
يُجِبْكُم، يا معاشِرَ العرب ما عِلَّتكم اليوم وأنتم في حصونكم (أي على
خيولكم)، ومعكم من لا يعصيكم (أي السيوف)؟ اذكروا حديث الناس في الغد؛
فغدًا يبدأ بكم ويُثَنَّى بمن بعدكم. ثم يقوم ابن الهذيل في القادسية،
فيقول: يا معاشر العرب، اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليها كالأسود،
وتَرَبَّدُوا تربُّدَ النمور، وثِقوا بالله، وإن كلَّت السيوف فأرسلوا
عليهم الجنادل (أي الحجارة)؛ فإنها يؤذن لها فيما لا يُؤذَن للحديد فيه
(وفي فلسطين أُذِنَ للحجارة فيما لم يؤذن فيه للحديد). ثم قام
ربعي بن عامر
فقال: أيها المسلمون، إن الله قد هداكم للإسلام، وجمعكم به، وأراكم
الزيادة فاشكروه يزِدْكم، واعلموا أن في الصبر الراحة؛ فَعَوِّدوا أنفسكم
على الصبر تعتادوه، ولا تعودوها على الجزع فتعتادوه. فحَمِيَ المسلمون،
وقَوِيَت شوكتهم، وتحفزوا للقتال.

تأجيج الحماس في قلوب المسلمين

هذه
بدايات الجيش الإسلامي التي جعلته يدخل المعركة بروح عالية، بينما كان
الجيش الفارسي لا يريد دخول المعركة، وقد ملأ الشعور الهزيمة قلب رستم، وقد
رأى رؤيَيَيْن أن النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ سلاحه، ويختم عليه،
ويعطيه لسيدنا
عمر بن الخطاب
رضى الله عنه ، ثم يعطيه لسعد؛ فدخل المعركة بهذا الشعور الانهزامي، على
النقيض من الجيش الإسلامي الذي كان يتمتع بالروح العالية، ثم يرسل سيدنا
سعد بن أبي وقاص بيانًا إلى الناس، وذلك قبل صلاة الظهر؛ لِيُقْرَأَ على كل
الكتائب، يقول لهم فيه: "الزموا مواقفكم لا تحركوا شيئًا حتى تُصَلُّوا
الظهر، فإذا صلَّيتم الظهر فإني مُكبر تكبيرة، فإذا كبرت فكبروا، ثم شدوا
شُسُوعَ نِعَالِكُم، واعلموا أن التكبير لم يُعْطَه أحدٌ من قبلكم، وإنما
أُعْطِيَ لكم لتأييدكم". فاللهُ أكبرُ من الفُرْسِ ومن الروم! اللهُ أكبرُ
من كل أهل الأرض إذا كانوا يحاربون الله ورسله، ويحاربون من ساند دين الله عز وجل .
فهذه الكلمة كانت علامةَ البدء وكلمة السر عند المسلمين، وذكرهم سيدنا سعد
بأن هذه الكلمة هديةٌ من الله لهم، فعليهم أن يقدروا قيمتها، فإذا كبرت
التكبيرة الثانية فكبروا وتهيئوا ولتستتموا عُدتكم؛ فإذا كبرت الثالثة
فكبروا، وليخرج فرسانكم وليخرج أهل النجدة والبلاء، ولْيُنشِّطْ فرسانُكم
الناسَ على القتال؛ ليبارزوا ويطاردوا (وما زال الجيش واقفًا ولم يلتحم
بعدُ مع الجيش الفارسي، ولم يخرج غير كتيبة الفرسان للقتال)، فإذا كبرت
الرابعة فشدوا النواجذ على الأضراس، واحملوا وازحفوا جميعًا حتى تخالطوا
عدوكم، وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله". وقد استعان بها المسلمون على
فتح حصون الفرس، واستعانوا بها على فتح حصن الأنبار، واستعان بها
محمد الفاتح
في فتح القسطنطينية، وقد قال لجيشه: "قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله
يفتحِ اللهُ لكم". وبالفعل فُتِحَتِ الحصونُ بهذه الكلمة، فيوصيهم سيدنا
سعد بن أبي وقاص بقول لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا هو بيان خطة المعركة،
ألقاه سيدنا سعد للجيش من فوق قصر "قديس" عن طريق سيدنا خالد بن عرفطة، ثم
يحين موعد صلاة الظهر فيُؤَذَّن لصلاة الظهر، وظنه رستم نداء الحرب فتحرك
نحو المسلمين، وما إن سمع المسلمون إقامة الصلاة حتى اصطفوا لها، فنادى
رستم على جيشه بأن يأخذوا أُهْبَتَهُم ويستعدوا للقاء المسلمين؛ فتقول له
العيون: إنما هذا للصلاة وليس للحرب. فيتعجب رستم ويقول: عجيب أمر هؤلاء
الناس، حتى وَهُمْ في ميدان المعركة حريصون على الصلاة. ثم تُقامُ الصلاةُ
ويَؤُمُّ المسلمين سيدنا خالد بن عرفطة، ويصلي بهم صلاة الحرب (وإحدى
كيفياتها: أن يصلي الإمام ببعض أصحابه ركعتين، ثم يسلموا ثم يتأخروا،
ويقوموا للحراسة، ويأتي الآخرون "باقي الجيش" فيكونون في مقامهم فيصلي بهم
ركعتين، ثم يسلم؛ فيكون الإمام قد صلَّى أربع ركعات، وللقوم ركعتان ركعتان،
ولها كيفيات أخرى)، ومشروعية هذه الصلاة في الحرب حتى لا يقوم المسلمون
بالصلاة كلهم؛ فيأتيهم العدو من خلفهم فيهجموا عليهم.

وأتمَّ
المسلمون الصلاة، وألقى الله الرُّعب والرهبة في قلوب الفرس، وكما تعجب
رستم نتعجب نحن أيضًا؛ كيف أن المسلمين أقاموا الصلاة في أول وقتها في هذا
الموقف الجلل، والجوِّ المشحونِ بالخطورة؟! وهذا هو مفتاح النصر الذي ذكره
سيدنا سعد بن أبي وقاص في البداية: "إن ترغبوا في الآخرة، وتزهدوا في
الدنيا تُعْطَوا الدنيا والآخرة". وهذا ما كان يمتلكه المسلمون في هذا
الوقت، ثم يأمر سيدنا سعد بن أبي وقاص القُرَّاء بالانتشار في الكتائب،
وقراءة سورة الجهاد (الأنفال)، فيفعلون. ونذكر منها هنا بعض الآيات؛ لنعيش
في الموقف الذي عاش فيه المسلمون في القادسية..

{وقُرِئَت
سورةُ الأنفال كاملةً، وكان المسلمون يتعلمونها في الجهاد، وهَشَّت
القلوبُ، وانهمرت الدموع من العيون، وتذكَّر البدريون من صحابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم موقعة بدر، وتذكروا كيف أنزل الله ملائكته عليهم، وكانت
عدتهم قليلة، وكان الكفار أكثر منهم، وأنزل الله عليهم الملائكة، وشاهدوا
أعناق الكفار وهي تطير حتى قبل أن تصلَ إليها السيوف، وعندما سألوا النبي
صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال لهم: إنها الملائكة. وتذكروا المطر الذي
نزل فثبَّت الأقدام، وزلزل الأرض من تحت أقدام المشركين، تذكروا الانتصار
الذي امْتنَّ اللهُ به على المسلمين في موقعة بدر على أهل الكفر رغم أن كل
التوقعات كانت تؤيد انتصار الكفر، وفي القادسية يتكرر الموقف نفسه فيتذكر
المسلمون هذه المعركة، ويتذكرون النبي صلى الله عليه وسلم فتنهمر الدموعُ
من أعينهم، ويُخَضِّب الدمعُ لحاهم فيتأثر كل من في أرض القادسية بهذا
الموقف، ويتشوقوا إلى لقاء الفُرس؛ ليتحقق لهم ما تمنَّوْه، وما وُعِدُوا
به من إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.

بَدْءُ القتال

بعد
قراءة سورة الأنفال شعر سيدنا سعد بارتفاع الروح المعنوية لدى المسلمين،
وأنهم على أُهْبَة الاستعداد وأتمِّه للقاء الفرس؛ فصاح رافعًا صوته
قائلاً: الله أكبر! فكبر من ورائه المسلمون جميعًا، وكان عددهم اثنين
وثلاثين ألفًا، فأوقعت هذه الصيحة الرعب والفزع في قلوب أهل فارس، وتحفز
المسلمون للقتال ولكنهم كانوا ينتظرون التكبيرات الأربع، ثم يكبر سيدنا سعد
بن أبي وقاص التكبيرة الثانية فتصطف الصفوف، وتُرفَع السيوف من الأغماد،
ويستعد الناس للقتال، ثم يكبر سيدنا سعد التكبيرة الثالثة فتخرج كتيبة
الفرسان أفضل مجاهدي المسلمين من ناحية القتال المهاري على أشد الخيول
ضراوةً إلى ساحة القتال يطلبون المبارزة؛ ليحفزوا المسلمين وينشطوهم، وكان
من أوائل من خرجوا من فرسان المسلمين للقتال ربيعة بن عثمان، وغالب بن عبد
الله، وعمرو بن معديكرب، وعاصم بن عمرو التميمي، وكان أول قتال نشب بين
ربيعة بن عثمان من قبيلة هوازن وأحد أشداء الفرس، وكان قتالاً شديدًا،
وتقاتلا مدة كبيرة، وأَذِن اللهُ لربيعة بن عثمان بقتل الفارسي بعد قتالٍ
عنيف، وكان أول قتيل من الفرس في أرض القادسية فكبر المسلمون، وربط الله
على قلوب المسلمين، وألقى الله الرعب في قلوب الفرس، وهبت ريح النصر على
المسلمين، وتقدم سيدنا غالب بن عبد الله صحابي رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليقاتل فخرج له هرمز (وهو غير هرمز المقتول بسيف سيدنا خالد بن الوليد
في موقعة ذات السلاسل)، وكان ملك منطقة الباب في فارس بجوار بحر قزوين،
فتقاتلا قتالاً شديدًا، وأتم الله النعمة على سيدنا غالب بقتل هرمز في أرض
المعركة وبسلبه تاجه، فانهارت معنويات الفرس، وخُلِعَت قلوبهم من الرعب،
وارتفعت معنويات المسلمين، وكبر المسلمون بعد قتل هرمز ملك منطقة الباب،
وقام عمرو بن معديكرب يتمشى بين الصفوف، وكان يحمل أقوى سيوف العرب وهو سيف
الصمصامة (صورة للسيف إن أمكن)، وكان رجلاً ضخم الجثة قوي البنيان، وكان
من المهرة في القتال، وكان يحفز الناس قائلاً لهم: قاتلوهم كما تقاتل
الأسود، فأنتم اليوم أقوى من الأسود. فتقدم إليه رجل من الفرس ورماه برمح
فوقع على درعه وسقط على الأرض، وكانت رماح الفرس من طولها يسمونها نشابًا،
وتوجه سيدنا عمرو بن معديكرب نحو الفارسي وحمل عليه حملة واحدة فخطفه من
فوق فرسه، ورجع به إلى المسلمين، وألقاه على الأرض، وضرب رأسه بسيفه؛
فقطعها بضربة واحدة ثم أخذ رأسه وألقاها ناحية فارس، وأخذ سواريه ومنطقته،
وحمل سيدنا عاصم بن عمرو رابع الفرسان الذين تقدموا على رجل من أهل فارس،
فترك هذا الرجل فرسه وهرب إلى الجيش الفارسي؛ ليحتمي بهم فأخذ سيدنا عاصم
فرسه وعاد به غنيمة إلى المسلمين، وكتب الله النصر للفرسان الذين تقدموا من
المسلمين، مما ثبت الله المسلمين وربط على قلوبهم، وألقى الله بذلك الرعب
والوهن في قلوب الفرس.

القلوب بين أصابع الرحمن:
بعد
هذه الانتصارات التي حققها المسلمون، وبعد الرعب الذي وقع في قلوب أهل
فارس يحدث حدث غريب لم يحدث من قبل، ولم يحدث بعد ذلك في الحروب الفارسية،
وتناقله الرواة في رواياتهم لحروب فارس، وكان حادثًا مؤسفًا وهو أن أحد
المسلمين في الجيش الإسلامي ارتدَّ وانتقل من معسكر الإيمان إلى معسكر
الكفر والوثنية، وليس بينه وبين الشهادة إلا مسافة غير بعيدة، ولكنه ارتد
رافعًا يده مستسلمًا للفرس.

ويحكي الرفيل
(وكان أحد الفرس الذين أسلموا وأخفوا إسلامهم وبقي في جيش الفرس عينًا
للمسلمين) أن هذا الرجل جاء إلى الفرس، وأعلن ارتداده وانضمامه إلى صفوف
الفرس وترك جيش المسلمين، وكانت هي الحادثة الوحيدة التي حدثت طيلة الحروب
الفارسية، وسأله الفرس: أي العرب أشد؟ فقال لهم: إن بأسهم في بجيلة؛ فإذا
انتصرتم عليها وهنت لكم قوة العرب. فلما وصل هذا الكلام إلى رستم أصدر
أمرًا بتقدم الميمنة والمقدمة نحو بجيلة، فيتوجه الهرمزان على رأس ثمانية
وعشرين ألف مقاتلٍ، والجالينوس على رأس أربعة وعشرين ألفًا، وكان مجموع
الفرقتين اثنين وخمسين ألف مقاتل، وتتوجه هذه القوة إلى قبيلة بجيلة، وإلى
هذه اللحظة لم يطلِق سيدنا سعد بن أبي وقاص التكبيرة الرابعة، وما إن توجهت
هذه الأعداد إلى قبيلة بجيلة حتى أمطروهم بوابل من السهام، فاتَّقى
المسلمون السهام، وتقدمت الفِيَلة نحو بجيلة فنفرت الخيل من أمام الفيلة،
وبدأ الفرسان يدفعون بالمشاة ليتقدموا ويدفعوا عن الخيول، وكان هذا الموقف
من أشد المواقف صعوبة على المسلمين، وقاتل المسلمون بصعوبة شديدة، وثبت
المشاة من المسلمين ولم تثبت الخيول، وبدأت الكفة ترجح في جانب الفرس.

حِنْكَةُ سعد بن أبي وقاص

من
فوق قصر (قُدَيْس) رأى سيدنا سعد بن أبي وقاص بنظرته الحربية أنه لو أطلق
التكبيرة الرابعة لهجمت الفرق الإسلامية على فرقة الجالينوس وفرقة
الهرمزان، مما يعطي الفرصة لبقية فرق الفرس المنتظرة دون قتال بقيادة مهران
والبيرزان وبهمن للالتفاف حول الجيش الإسلامي ومقاتلته من الخلف، فخشي
سيدنا سعد من إطلاق التكبيرة الرابعة إلا بعد اشتراك هذه الفرق في القتال
حتى تواجههم الفرق الإسلامية وجهًا لوجه، ولا تلتف خلف الجيش الإسلامي.

فيصبر
سيدنا سعد بن أبي وقاص حتى يرى ما تنتجه الأحداث، وتثبت بجيلة ولكن الأمر
في غاية الصعوبة، فأعداد الفرس ضخمة وهجوم الأفيال شديد جدًّا، وقد ألقى
الفرس تحت أرجل خيول المسلمين حسك الحديد (قطعًا تشبه الخوازيق)، فكان هذا
الموقف من أشد المواقف على المسلمين.

بسالة أسد وكندة:
وفي
الوقت نفسه أرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص رسالة إلى قبيلة أسد أن أغيثوا
بجيلة وهي على يمين بجيلة مباشرة، وقبل أن تتحرك قبيلة أسد لنجدة بجيلة،
كانت الفرق الفارسية قد توجهت إلى عمق قطاع بجيلة وفي قطاع كندة أيضًا على
يسار بجيلة، وعانت القبيلتان من السهام والسيوف الفارسية، ولما وصلت
الرسالة إلى قبيلة بني أسد قام طليحة بن خويلد الأسدي وخطب في الناس، وقال
لهم: لو يعلم سعد قومًا أجدر منكم على إغاثتهم لاستغاثهم؛ وإنما سميتم
أسدًا لتفعلوا فعله، فقاتلوا كما تقاتل الأسود. وكانت لهذه الكلمة أثر
السحر في نفوس قبيلة أسد، فقامت وهجمت على فرقة الجالينوس لتذب عن بجيلة
الرماح والسهام والسيوف الفارسية، وألقى الله في قلوبهم الثبات، وقاتلت
قبيلة "أسد" أشد ما يكون القتال مما جعل العجب يدخل إلى نفوس أهل المعركة،
وبعد هذه الهجمة من قبيلة بني أسد وَجَدَ الهرمزان والجالينوس أن الهجوم
يأتي من ناحية قبيلة أسد، فوجهوا القتال ناحيتها، وفي أثناء القتال قام
الأشعث بن قيس في قبيلة كِنْدَة التي كانت على ميسرة الجيش الإسلامي، وكان
الأشعث في الوفد الذي ذهب إلى يزدجرد، وكان قد ارتدَّ من قبل، وزوَّجه
سيدنا أبو بكر الصديق أخته أم فروة بعد أن اطمأنَّ إلى إسلامه، فقال لهم:
يا معشر كندة، لله دَرُّ بني أسد أي فري يفرون! (أي ما أشد قتالهم!) منذ
اليوم أغنى كل قوم ما يليهم، وأنتم تنتظرون من يكفيكم البأس. فتحمست كندة،
وخرج له أهل النجدة، وتحولت قبيلة كندة من الدفاع إلى الهجوم ضد القوات
الفارسية لِتَذُبَّ عن قبيلة بجيلة وقبيلة أسد، والتفت القبائل الثلاثة حول
الفرقتين الفرسيتين بقيادة الهرمزان والجالينوس، ولضيق المكان لم يتمكن
الجيش الفارسي من الالتفاف حول الجيش الإسلامي، وكانت مشكلة الجيش الفارسي
أن صفوفه كانت متكدسة في الطول، وعرضهم كان موازيًا لعرض المسلمين، ودارت
رَحَى المعركة على قبيلة بجيلة وأسد، وقبيلة كندة التي كانت تحاول مساعدة
المسلمين، ولما رأى رستم ما حَلَّ بجيشه أمر بهمن جاذويه قائد القلب أن
يترك مكانه ويتقدم ناحية قبيلة أسد، فيتقدم بهمن على رأس عشرين ألف مقاتل
وخمسة أفيال إلى قبيلة أسد مهاجمًاً، وللمرة الثانية بدأت الكفة ترجح في
ناحية الفرس.

التغلب على الأفيال

تعجب
سعد بن أبي وقاص لما رأى الأفيال من فوق القصر وأنها فوق طاقة المسلمين،
فنادى على عاصم بن عمرو التميمي وقال له: ألا لك في الفيلة من حيلة؟ فقال:
بلى والله. فانتخب سيدنا عاصم بن عمرو التميمي أفضل فرقة من قبيلة تميم،
وكانوا من أفضل القبائل رميًا بالسهام، وبدأت هذه الفرقة برمي قائدي الفيلة
بالسهام، فكان كل فيل حاملاً تابوتًا كبيرًا عليه أكثر من قائد، وقسَّم
سيدنا عاصم بن عمرو التميمي من معه إلى فرقتين: فرقة ترمي قُوَّاد الفيلة
بالسهام، والأخرى تندس داخل الجيش الفارسي لتقطع أحزمة التوابيت التي فوق
الأفيال، وكانت فكرة سيدنا عاصم أن تفقد هذه الفيلة توجهها -وكانت في
القيادة- لتتجه نحو الجيش الفارسي.

واستطاعت
هذه الفرقة أن تصيب طائفة كبيرة من قواد الأفيال، واستطاعت الفرقة التي
اندست في الجيش الفارسي أن تقطع أحزمة توابيت الأفيال، وكلما وقع تابوت كبر
المسلمون، وتقدموا إليه وقتلوا من فيه، وحدث ذلك في معظم التوابيت الثلاثة
عشر، وعند ذلك يكبر سيدنا سعد بن أبي وقاص التكبيرة الرابعة، وما إن
انطلقت التكبيرة الرابعة حتى انطلق المسلمون ناحية الجيش الفارسي، ويتقدم
كذلك الجيش الفارسي وتلتحم الصفوف، واشتدت رحى الحرب دورانًا، وكانت
المعركة على أشدها، وبدأت أسد وبجيلة في دفع بهمن جاذويه إلى الخلف، وكانت
مرحلة لم يفكر المسلمون في الوصول إليها، فقد كانت البداية شديدة على
قبيلتي أسد وبجيلة، حتى استطاع عاصم بن عمرو التميمي -بفضل الله- أن يرد
بأس الفرس شيئًا ما.

وبعد هذا الأمر يستمر
القتال بين الفريقين ما بين قاتل ومقتول من الناحيتين حتى بعد غروب الشمس
بقليل، وفي هذا الوقت كانت الجيوش لا تقاتل ليلاً، ونهكت قوى الفريقين وكان
القتال في غاية الشدة، واستمر القتال حتى دخل وقت صلاة العشاء، فبدأ
الفريقان بترك أرض القتال كلٌّ منهما عائدًا إلى مكانه قبل صلاة العشاء في
أول الأيام، وكان يوم القادسية موافقًا للثالث عشر من شعبان في العام
الخامس عشر الهجري، وسمِّيَ هذا اليوم بيوم أرماث، واختلف الرواة في سبب
تسمية هذا اليوم بهذا الاسم، لكن بالعودة إلى معنى الكلمة يتضح الأمر شيئًا
ما؛ فمعنى كلمة أرماث اختلاط الشيء بالشيء، وكان الأمر مختلطًا في ذلك
اليوم على الفرس وعلى المسلمين، ولا نستطيع الجزم بانتصار المسلمين أو
انتصار الفرس، وأدرك المسلمون قوة الفرس، فإن المسلمين قد اعتادوا في
المعارك السابقة انتهاء المعركة في يوم واحد وقبل الظهر، لكن هذه المعركة
لم تتحقق فيها نتيجة حتى بعد غروب الشمس، وإن كانت الغلبة ظاهرة في هذا
اليوم في صف الفرس إلى حد ما.

واستشهد في أول
أيام القادسية من المسلمين خمسمائة شهيدٍ، منهم أربعمائة شهيد أو أكثر من
قبيلة أسد وحدها التي قامت تذب عن قبيلة بجيلة، وقُتِلَ من الفرس أكثر من
ألفين، وكان في المسلمين إصابات كثيرة.

ولم
يقع قتال بين الفريقين في هذه الليلة وسميت بليلة الهَدْأَة، وبدأ المسلمون
بجمع شهدائهم ونقلهم إلى منطقة "عذيب الهجانات"، وتقع قبل القادسية بميل
أو أكثر، ونقلهم المسلمون على الإبل حيث كانت النساء ينتظرن المسلمين، حيث
كان المسلمون قد خرجوا إلى القادسية منذ شهور، وأخذوا معهم نساءهم، وعسكروا
في منطقة "عذيب الهجانات" في مؤخرة الجيش الإسلامي، وكان على النساء حبيب
بن جرير الأنصاري، بالإضافة إلى اختصاصه بشئون الجرحى والشهداء، وبدأت
النساء بحفر القبور، ولا تدري أيتهن من يُدفن في هذا القبر إن كان أباها أو
أخاها أو ابنها، ودُفِنَ الشهداءُ في الليلة نفسها، وتجهز المسلمون
لملاقاة الجيش الفارسي في اليوم الثاني.

تحفز المسلمين للقتال:
في هذه الليلة تجلس الخنساء
مع أبنائها الأربعة؛ لتحفزهم على القتال، وألا يفروا من المعركة إذا حمي
وطيس الحرب، وأن يكونوا على الجنة أحرص منهم على الحياة، وهي التي بكت
سنينَ على أخيها صخرٍ عندما قتل في الجاهلية، وكانت شاعرة من شاعرات العرب
في الجاهلية، ومَنَّ اللهُ عليها بالإسلام، وخطبت في أبنائها؛ فقالت: إنكم
أسلمتم طائعين، وجاهدتم مختارين، وقد تعلمون ما أعدَّ الله للمسلمين من
الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار
الفانية، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، فإذا أصبحتم غدًا سالمين فاغدوا على قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين.

وفي المقال القادم نستكمل باقي أيام القادسية إن شاء الله.

________________________________________________
التحرك نحو القادسية 12107010_906912522734669_1561722651500059538_n
حمدي عبد الجليل
حمدي عبد الجليل
المشرف العام
المشرف العام
ذكر عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28271
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
التحرك نحو القادسية 1393418480781

التحرك نحو القادسية 140

التحرك نحو القادسية Empty رد: التحرك نحو القادسية

الأحد 29 يناير 2012, 21:29
اليوم الثاني والثالث للقادسية

د. راغب السرجاني



مقدمة

استمر
القتال في اليوم الأول من القادسية حتى آخر اليوم بعد غروب الشمس بقليل،
ثم انفصلت الجيوش، وسميت هذه الليلة ليلةَ الهدأة؛ لأن الجيوش هدأت فيها
ولم تقاتل، وكان شهداء المسلمين في هذا اليوم 500 شهيدٍ، وقُتِلَ من
الفُرْسِ في هذا اليوم 2000 قتيل، وكان القتال فيه شديدًا على المسلمين،
وذكرنا أن هذه الشدة كانت لوجود الفِيلَة في جيش فارس وعددهم 33 فيلاً، ولم
يستطع المسلمون أن يسيطروا على المعركة إلا بعد أن أفلحت قبيلة تميم في
قطع التوابيت التي كانت فوق هذه الأفيال، ففرت الأفيال من المعركة ولم
يعُدْ لها قائد، وحينئذٍ بدأ المسلمون يتنفسون الصعداء، وبدأت قبيلة تميم
تصد عن قبيلتي أسد وبجيلة.

وفي هذه الليلة أيضًا وصلت رسالة من سيدنا أبي عبيدة بن الجراح -وهو أمير الجيوش الإسلامية في الشام- بعد أن انتصر على الروم في موقعة اليرموك؛ فقد أرسل له سيدنا عمر بن الخطاب رسالة أن يرسل مددًا من الشام إلى العراق لنجدتهم، فأرسل سيدنا أبو عبيدة بن الجراح ستة آلاف مقاتلٍ على مقدمتهم سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي،
وكان هذا سببًا عظيمًا في فرحة المسلمين واستبشارهم بالنصر؛ لأن سيدنا
القعقاع بن عمرو من أفضل المقاتلين المسلمين، ومن أشدهم ضراوة، قال عنه
سيدنا
أبو بكر الصديق رضى الله عنه:
إن صوت القعقاع في الجيش أفضل من ألف رجل. وقال أيضًا: لا يُهْزَم جيشٌ
فيه القعقاع بن عمرو. فكانت هذه بشرى لجيش المسلمين، وكان على رأس الآلاف
الستة سيدنا
هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وهو ابن أخي سيدنا سعد بن أبي وقاص،
وعلى المقدمة القعقاع بن عمرو، وفي أول تباشير الصباح من اليوم الثاني
وصلت الفرقة القَعْقَاعِيَّة، التي تتكوّن من ألف مقاتلٍ على رأسهم القعقاع
بن عمرو التميمي.
حيلة القعقاع

لقد
تفتق ذهن القعقاع عن حيلة لم تحدث من قبل في تاريخ الحروب الإسلامية أو
الفارسية؛ فقد كان معه ألف فارس قسَّمهم إلى عشرة أقسام، كل قسم يتكون من
مائة، وتقدم هو في أول مائة ودخل على الجيوش الإسلامية في الصباح، وهو يكبر
والمائة يكبرون معه: الله أكبر! وكأنهم هم فقط المدد للمسلمين؛ فشعر
المسلمون بالراحة لوجوده، ثم بعد قليل جاء مائة آخرون يكبرون: الله أكبر!
ثم بعد قليل جاء مائة آخرون يكبرون: الله أكبر! وهكذا تتابعت كل مائة حتى
ظَنَّ المسلمون أن هذا المدد لا ينتهي؛ فزاد ذلك في عزيمتهم، وفي
معنوياتهم، وفَتَّ في عَضُدِ أهل فارس الذين اعتقدوا أيضًا أن هذه الأعداد
لا تنتهي.

وعندما وصل القعقاع بن عمرو التميمي رضى الله عنه إلى
العراق، كان قد قطع في طريقه مسافة طويلة جدًّا على خيله، وعلى الرغم من
ذلك نزل مباشرة إلى أرض القتال (وكما نعلم أنه من عادة الجيوش في ذلك الحين
أن ينفصل الجيشان في أول القتال ثم تبدأ المبارزة، وبعد المبارزة يبدأ
الزحف والقتال العام بين الجيوش) يطلب المبارزة، فخرج له بهمن جاذويه قائد
قلب الجيش الفارسي وكان على عشرين ألف مقاتلٍ (وبهمن هذا هو الوحيد الذي
انتصر على المسلمين من قبل في موقعة الجسر (رابط للمعركة)، وقتل أبا عبيد
بن مسعود الثقفي، و
سليط بن قيس وهو صحابي جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقتل القعقاع t
بهمن، وعندما قُتِلَ بهمن جاذويه حدثت هزيمة نفسية شديدة للفرس، وشعروا أن
هذا اليوم يوم شؤم عليهم؛ فقد كانوا يتشاءمون ولا يتفاءلون على عكس
المسلمين، فأراد رستم أن يغيَّر من نفسية الفرس، ويشد من أزرهم فأخرج
للقعقاع بن عمرو البيرزان قائد مؤخرة الجيوش الفارسية (وكان على 24000
فارسي)، وهو يقف بجيشه على ميمنة مهران الرازي قائد الميسرة، وهو أحد
القواد الخمسة العظام الذين تحت إمرة رستم مباشرة، وأخرج معه قائدًا آخر
اسمه البندوان كان مرشحًا لخلافة بهمن جاذويه على القلب، فخرج مع القعقاع
بن عمرو الحارث بن ظبيان، والتقى المسلمان: القعقاع والحارث مع قائِدَي
الفرس، فتبادلا ضربتين فقتل سيدنا القعقاع بن عمرو البيرزان بضربة واحدة
طارت فيها رأسه، وكذلك فعل الحارث بن ظبيان فقد قتل البندوان بضربة واحدة
أيضًا.


لقد
فقد الفرس بذلك ثلاثة من أكبر قوادهم في أولى لحظات القتال من اليوم
الثاني، وفي ذلك بشارة بالنصر للمسلمين، هذا فضلاً عن أن بدايات هذا اليوم
كانت مبشرة بالنصر كالآتي:

أولاً: وصول المدد نحو ألف فارس مقدمة، وباقي المدد وعدده خمسة آلاف في طريقه إلى القادسية.
ثانيًا: وجود القعقاع بن عمرو التميمي في أرض المعركة، وهذه بشارة بمفرده.
ثالثًا: قَتْلُ بهمن جاذويه والبيرزان والبندوان في بداية المعركة.
رابعًا: اختفاء الفِيَلَة من أرض المعركة.
ولكن
لماذا اختفت الفيلة؟ اختفت الفيلة لأن توابيتها قُطِعَت كُلُّها في
المعركة أمسِ؛ فلم يستطع الفرس الركوب على الفيلة بدون التوابيت، والفيلة
كلها موجودة في قطاع من قوات الاحتياط في الجيش الفارسي يصلحون من شأن
التوابيت، وعمل الأحزمة الجديدة اللازمة لها بعدما قطعها المسلمون في اليوم
السابق، ثم بدأت المناوشات مرة أخرى بين فرسان المسلمين والفرس.
من الشهداء الأبطال

يخرج
في هذا اليوم علباء بن جحش ليقاتل أحد الفرس فيصيب كل منهما الآخر في
مقتل؛ فيضرب الفارسي المسلم في بطنه، فيقع على الأرض بعد أن ضرب الفارسي في
صدره فقتله، وخرجت أمعاء علباء خارج بطنه، فقال لرجل من المسلمين بجواره:
أعنِّي على بطني. أي: ساعدني أن أدخل أمعائي في بطني؛ فأدخل أمعاءه في
بطنه، ثم قام فتوجه مرة أخرى إلى أرض المعركة ليستكمل القتال (فهو لا يود
أن يتوجه إلى أرض المسلمين لينسحب على الرغم ما به من إصابة قاتلة)، ولكنه
سقط شهيدًا بعد خطوات قليلة وهو يقول:

أرجو بها من ربنا ثوابا *** قد كنت ممن أحسن الضرابا
ثم استشهد t، وكان هذا أيضًا من أوائل المسلمين الذين استشهدوا في اليوم الثاني من أيام القتال.
ثم خرج أبناء الخنساء
رضي الله عنها (وهي شاعرة من شاعرات العرب البارعات في الشعر، كانت قد
أطلقت شعرًا عظيمًا في قتل أخيها صخر في الجاهلية، وبَكَتْ عليه عمرًا
طويلاً، ولكنها عندما أسلمت أحضرت أبناءها الأربعة في موقعة القادسية،
وأخذت تحرضهم على القتال والشهادة، وتذكرهم أن الجنة هي الموعد ودار
البقاء، وأن الدنيا دار الفناء)؛ فانطلق أولادها الأربعة في هذا اليوم
أيضًا للمبارزة قبل أن يلتقي الجمعان، فخرج الواحد منهم تلو الآخر، كل واحد
منهم يخرج ويتلو بعض أبيات الشعر، ثم يتقدم ويحمل على الفُرْسِ؛ فيَقْتُل
منهم من يَقْتُل، ثم يُستَشهد، فاستُشهِد في ذلك اليوم أبناء الخنساء
الأربعة، وعندما بلغها -رضي الله عنها وأرضاها- خبرُ استشهادهم، قالت:
الحمدُ للهِ الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر
رحمته.

ويذكر المؤرخون في هذا اليوم بطولات عظيمة للمسلمين، وأنهم كانوا يتشوقون إلى الشهادة وإلى اليوم الذي يلقون فيه الله عز وجل حتى
يُذكَرَ أن سواد بن مالك -وكان من قواد المسلمين على المشاة- كان يطلب
الشهادة وتستبطئ عليه؛ فقد كان يأخذ سيفه ويلقي بنفسه داخل الجيش الفارسي
يقتل منهم من يقتل يبغي الشهادة فلا يستشهد، حتى اقترب من سرير رستم في عمق
الجيش، ولكنه نال الشهادة التي طلبها؛ فقد أنعم الله عز وجل عليه بها قبل أن يصل إلى سرير رستم بخطوات، واستُشهد رضى الله عنه.

ثم
تقدم القعقاع يطلب المبارزة 30 مرةً في هذا اليوم؛ فقتل وحده في الكَرِّ
والفَرِّ ثلاثين فارسيًّا، وكل ذلك ولم يلتقِ الجيشان، واستمرت المبارزة
حتى بعد صلاة الظهر في اليوم الثاني، ثم بدأ الفريقان يلتحمان مع بعضهما
البعض في قتال شديد، وقد كان الالتحام في اليوم السابق من ناحية الفرس تجاه
المسلمين، إلا أنه في هذا اليوم تقدم المسلمون ناحية الفرس، وضغطوا عليهم
في بداية القتال عكس اليوم السابق، ثم استمر القتال بمنتهى القوة والشدة
بين الطرفين من صلاة الظهر حتى منتصف الليل دون انقطاع.

عمر والتوجيه المعنوي للجيش:
وفي
هذا اليوم أيضًا تصل من سيدنا عمر بن الخطاب إلى الجيش الاسلامي هدية
معنوية يحمس بها الجيش ويحفزه؛ فقد بعث بأربعة خيول وأربعة أسياف هدايا إلى
أهل البلاء والشدة من المسلمين، وفي الليل قبل أن تنتهي المعركة ينادي
سيدنا سعد بن أبي وقاص على أربعة؛ فيعطيهم الخيول وهم: سيدنا القعقاع بن
عمرو التميمي، وسيدنا نعيم بن عمرو، وسيدنا عتاب بن نعيم، وسيدنا عمرو بن
شبيب وكلهم من تميم، وقد ذكرنا بأس تميم في الذود عن قبيلتي: أسد وبجيلة في
اليوم الأول، وبأسها في اليوم الثاني حيث كانت في قلب المعركة، وكانت من
أكثر القبائل ضغطًا على قلب فارس، ثم أعطى الأسياف الأربعة لأربعة رجال
وهم: حمال بن مالك قائد المشاة، والربيل بن عمرو، وطليحة بن خويلد الأسدي،
وعاصم بن عمرو التميمي. وكم كان لهذه الأسماء من دور عظيم في القتال، وبأس
شديد في هذه المعركة!!
وقفة مع أبي مِحْجَن الثقفي

من
الأحداث اللطيفة التي تُرْوَى في هذا اليوم أيضًا أن أبا مِحْجَنٍ الثقفي
(ونحن نعلم أنه كان من المشاغبين في أول يوم؛ فحبسه سيدنا سعد بن أبي وقاص
في قصر قديس في مؤخرة الجيوش، ورفض أن يشركه في المعركة) مكث في القصر يرسف
في أغلاله يسمع أصوات السيوف، ويسمع تكبير المجاهدين، ونفسه تتشوق إلى
القتال والجهاد في سبيل الله؛ فالجنة على بُعْدِ خطوات، وهو مقيد في قيده؛
فندم على فعلته ومعصيته لأميره خالد بن عرفطة، وطلب من سيدنا سعد بن أبي
وقاص أن يشركه في القتال ثاني يوم (فهو لم يفرح لابتعاده عن ميدان القتال
وهو مظنة القتل، ولكنه يود أن يجاهد في سبيل الله)، فرفض سيدنا سعد بن أبي
وقاص أن يشركه في القتال، رغم أن المسلمين في أشد الحاجة إلى مقاتل مثل أبي
محجن الثقفي، إلا أن سيدنا سعدًا يمنعه؛ لأنه كان مشاغبًا في بداية
المعركة، وبذلك يعطي درسًا تربويًّا للمجاهدين حتى لا يتكرر هذا الفعل مرة
ثانية. وكانت زوجة سيدنا سعد بن أبي وقاص هي التي تسقي وتطعم المحبوسين
داخل الحصن، فسمعت أبا محجن الثقفي ينادي عليها ويقول: يا أَمَةَ الله، هل
لك في خير؟ فقالت له: وما ذاك؟ فقال لها: تفكين أسري وتعيريني البلقاءَ
(وهي فرس سيدنا سعد بن أبي وقاص نفسه، ونحن نعلم أن سيدنا سعد بن أبي وقاص
مريض، وجالس فوق القصر لم يشارك في القتال، ولكن فرسه موجودة في القصر)،
فأشترك في القتال، فإن سلَّمني الله عُدْتُ، ووضعت قدمي في القيد، وهذا عهد
مني إليك. فقالت: ما لي أفعل ذلك؟! أي: لا أستطيع أن أفعل هذا حتى لا يغضب
سعد مني؛ فرفضت ثم عادت فسمعته يشدو شعرًا يذكر فيه تشوقه إلى الجهاد،
وحسرته على أن المجاهدين في هذا الموقف، وهو في ذلك الموقف، وأخذ يبكي بكاء
مُرًّا؛ فَرَقَّ قلبها لتشوقه للجهاد، وصَلَّت واستخارتِ اللهَ عز وجل ثم
ذهبت إليه، وقالت: يا عبد الله، إني قد استخرتُ الله، وقبلتُ عهدك (أي:
قبلت أن تخرج وترجع مرة ثانية إلى مكانك)، أمَّا البلقاء فلا أعيره.
وبالفعل فَكَّت قيده، فذهب أبو محجن الثقفي، وأخذ البلقاء، وخرج من الباب
الخلفي لحصن قديس، وانطلق إلى أرض المعركة، وقد حدث ذلك كله بعد منتصف
الليل، فتلثَّم أبو محجن حتى لا يعرفه أحد، ودخل أرض المعركة في ميسرة
الجيوش حيث قبيلته ثقيف، ثم بدأ يقاتل قتالاً لم يعهده العرب من قبل،
وقَتَلَ من الفرس في ذلك اليوم الكثير، وظل يكرُّ ويَفِرُّ على ميسرة
الفرس، حتى أحدث فيهم ما لم يحدثه العرب؛ فتعجب منه المسلمون وهم لم يعرفوا
هذا الفارس، ثم عاد من خلف الجيوش وانتقل إلى ميمنة الجيش الإسلامي، وبدأ
يقاتل الفرس منها؛ فقتل منهم من قتل وفعل بالفرس مثلما فعل بالميسرة، ثم
عاد من خلف الجيوش الإسلامية في قلب الجيش الإسلامي، وقاتل الفرس في قلبهم،
فقتل منهم أيضًا من قتل، والمسلمون يتعجبون مَنْ هذا؟! وسيدنا سعد بن أبي
وقاص من فوق حصن القادسية يرى الرجل، فيقول: سبحان الله! الضبر ضبر البلقاء
(والضبر هو قفز الفرس ثم نزولها مضمومة الأيدي وهذا من شدة بأسها، أي هذه
حركات البلقاء)، والطعن طعن أبي محجن. ولكنه لم يجد تفسيرًا لذلك؛ لأن أبا
محجن في حبسه وفرسه مربوطة، ثم يقول: والله لولا حبسُ أبي محجن، لقلت: أبو
محجن، وقلت: البلقاء. ثم عاد بعد أن انتصف الليل وانفكت الجيوش إلى قيده،
ووضع قدميه في القيد، وربط البلقاء وكأن شيئًا لم يكن، والمسلمون يتعجبون،
ويقولون: واللهِ لولا أنَّا لا نرى الملائكة لقلنا: ملك يثبتنا. وهذا هو
التفسير الوحيد لما شاهده المسلمون في المعركة من أبي محجن، ثم ذهبت السيدة
"سلمى" زوجة سيدنا سعد بن أبي وقاص إليه في اليوم الثاني، وأخبرته بالقصة؛
لأنها لم تستطع أن تحتفظ بهذا السر الرهيب، فغضب في البداية، ثم اكتشف
وجود أبي محجن في القيد، فعلم أنه وفَّى بعهده، وعاد إلى القيد؛ فسامحها
وسامحه، وأطلقه في أرض المعركة في اليوم الثالث. سبحان الله! انظر إلى هذا
الرجل وكم كان شوقه إلى القتال؛ فهو محبوس وله عذره، ولا يستطيع أحد من
الناس أن يتهمه بالجبن، وهو بذلك الحبس ينقذ نفسه من القتال أو الموت،
ولكنه يبغي الشهادة، ويقاتل حتى وإن رفض الأمير، وقد سُمِّي هذا اليوم في
التاريخ يومَ أغواث؛ لأنه جاء فيه الغوث من الشام على رأسه سيدنا القعقاع
بن عمرو، وكان في ذلك غوث شديد للمسلمين وكان النصر حليفهم.

وقد
استُشهِد في هذا اليوم من المسلمين 2000 شهيد، وقُتِلَ من الفرس عشرة
آلاف، وبذلك أصبح قَتْلَى الفرس في اليوم الأول والثاني 12000، وشهداء
المسلمين 2500. وبعد منتصف الليل وانفصال الجيوش حمل سيدنا سعد بن أبي وقاص
الشهداء على الجمال، وسارت بهم من القادسية إلى عذيب الهجانات على بعد
خمسة كيلو مترات جنوبي القادسية؛ لكي يدفن الشهداء فيها.

أما
بالنسبة لقتلى الفرس فقد كان من عجائب دينهم أنه يحرم عليهم دفن الموتى،
فكانوا في بلادهم يضعون الموتى على الجبال؛ فتنهشهم جوارح الطير. وفي هذه
المعركة انهزموا هزيمة نفسية فتركوا موتاهم في الميدان، وفي صباح اليوم
الثالث كانت أرض المعركة كلها مملُؤَة بقتلى الفرس فقط، ولم يكن فيها شهيد
من المسلمين، فأثَّر ذلك المشهد تأثيرًا نفسيًّا شديدًا على الفرس؛ فهم لم
يعرفوا كم استُشهِد من المسلمين؟ وكم قُتِلَ منهم؟ وسبحان الله الذي أنعم
على المسلمين بدفن شهدائهم في العُذَيْب كما ذكرنا.
عبقرية القعقاع الحربية

يخرج
القعقاع بن عمرو التميمي بحيلة جديدة في هذه الليلة أيضًا، فبعد أن انتهى
القتال في منتصف الليل، وانفصلت الجيوش لم ينم سيدنا القعقاع وفرقته مثل
بقية الجيش لكي يستريح ويستعد لليوم التالي، ولكنه أخذ يسرب جيشه كله
(الألف مقاتل) بعيدًا عن الجيش في اتجاه الشام بنحو كيلو أو اثنين، وقال
لهم: عندما يأتي اليوم التالي (وهو اليوم الثالث في القادسية) تأتون إلى
أرض المعركة مائةً مائةً تكبرون، وكأنكم مدد جديد جاء للمسلمين؛ فيزيد ذلك
من بأس المسلمين، ويضعف من عزيمة الفرس.

وفعل
سيدنا عاصم بن عمرو التميمي أيضًا نفس الفعل، ولا ندري أهو اتفاق بين
القعقاع وأخيه عاصم بن عمرو التميمي، أم أن هذه فكرة طرأت للاثنين في ذات
الوقت؟! فقد سرَّب فرقته وكانت كلها من الخيول وهو قائدها (وهي أيضًا من
قبيلة تميم) في اتجاه آخر غير اتجاه سيدنا القعقاع ناحية الجنوب؛ فأصبح
الجيش الإسلامي في اليوم التالي تأتيه فرقة من الشمال من جيش القعقاع بن
عمرو التميمي يكبرون على أنهم المدد للمسلمين، وتأتي فرقة أخرى من الجنوب
من جيش عاصم بن عمرو التميمي كل مائة يكبرون أيضًا، وكأن المدد يأتي من
الشمال والجنوب، والمسلمون لا يعرفون من أين يأتي كل هؤلاء الرجال؟ وكذلك
الفرس، وكان لهذا الفعل أثر إيجابي جدًّا على نفسية المسلمين، وسلبي على
الفرس.

وفي آخر ألف القعقاع
بن عمرو التميمي في ثالث يوم، كانت بداية وصول سيدنا هاشم بن عتبة بن أبي
وقاص في بقية الآلاف الخمسة، وكان على رأس أول 700 فحكَوْا لسيدنا هاشم
حكاية القعقاع؛ ففعل فعله، وقسَّمَ فرقته إلى عشرة أقسام: كل قسم سبعون
رجلاً يكبرون: الله أكبر! وكأن المدد لا ينتهي -سبحان الله- وكان قائد
ميمنة سيدنا هاشم بن عتبة سيدنا قيس بن مكشوح وهو ممن دفع رِدَّةَ الأسود
العنسي مدعي النبوة في اليمن؛ فقد اشترك في قتله مع فيروز الديلمي، وفعل
نفس ما فعل هاشم بن عتبة رضى الله عنه وسيدنا
قيس هذا كان قد فقد إحدى عينيه في اليرموك، ولم تمر شهور على هذه المعركة،
ومع ذلك جاء ليقاتل في العراق في موقعة القادسية بعين واحدة -سبحان الله-
كما فعل عمرو بن معديكرب رضى الله عنه أيضًا، حيث فقد إحدى عينيه في اليرموك وجاء ليقاتل في القادسية تمامًا مثل قيس بن مكشوح رضي الله عنهم جميعًا.

وفي
هذا اليوم أيضًا يخرج القعقاع بفكرة وابتكار جديدين -هذا الرجل لا تنتهي
أفكاره وابتكاراته، وبالفعل كان وجوده في الجيش مؤثرًا تأثيرًا شديدًا- فمع
الفرس أفيال كان لها أثر شديد في القتال في أول يوم، ورغم أنه لم يشاهدها؛
لأنه لم يكن موجودًا في أرض المعركة، إلا أن المسلمين أخبروه بأمرها، وما
فعلت بهم؛ فقال: وأنَّى لنا بأفيال؟! (أي: ونحن نريد أفيالاً ولكن من أين
نأتي بها؟) فأَتَى رضى الله عنه بالجمال، ثم
أحضر صوف الخيام، وجعل الجيش كله يصنع منه طيلة الليل لباسًا يغطي الجمال؛
فغطاها كلها ولم يظهر من الجمال إلا العيون فقط، وعلق بها الأجراس، وبعض
الأشياء المصنوعة من الحديد (ونحن نعلم أن الجمل في حجمه من حيث الشكل أكبر
وأعلى من الفيل)، ثم جعل كل ثلاثة أو أربعة يركبون جملاً ومجموعة من
الخيول تحرس الجمال، ثم دخل بها في أول اليوم الثالث من أيام المعركة على
الفُرْسِ الذين قد فَرَغُوا من إصلاح توابيتهم، ودخلت أفيال الفرس على
فرسان المسلمين، فدخلت الجمال على فرسان الفرس، وعندما شاهدت خيول الفرس
هذه الجمال بهذا الشكل والأجراس تصدر أصواتًا شديدة نفرت من هذا المنظر
العجيب، أما خيول المسلمين فقد كانت معتادة على ذلك، وكان لذلك أثر شديد في
جيش الفرس -سبحان الله- كما كان للفِيَلَة أَثَرٌ في جيش المسلمين في أول
يوم، وكان من أقوى الفيلة في الجيش الفارسي: الفيل الأبيض والفيل الأجرب،
وكانت كل الأفيال تتبعهم، وكان الفُرْس قد رَوَّضوا الفِيَلَةَ بحيث يتبعون
هذين الفيلين الكبيرين.

وبعد
أن بدأت المعركة أرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص رسالة إلى من يظن فيه الخير
لكي يكفيه أمر هذه الفيلة؛ فبعث برسالتين كانت الرسالة الأولى إلى سيدنا
القعقاع بن عمرو التميمي وعاصم بن عمرو التميمي، وقال لهما فيها: "اكفياني
الفيل الأبيض"، والرسالة الثانية إلى سيدنا حمال بن مالك والربيل بن عمرو
وقال لهما: "اكفياني الفيل الأجرب"؛ فأخذ القعقاع وعاصم كل واحد منهما فرقة
صغيرة من قبيلتهما "قبيلة تميم"، وقبل أن يهجما على الفيل سألا سيدنا سعد
بن أبي وقاص أن يستدعي المسلمين الذين أسلموا من الفرس؛ فاستدعى من أسلم
منهم مثل: مسلم والرفيل، فمسلم كما ذكرنا أسلم على يد طليحة بن خويلد
الأسدي بعدما أسره، والرفيل أسلم بعدما سمع الرؤيا التي رآها رستم وفيها
الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فاستدعى هؤلاء الفرس، وقال لهم: أين مَقَاتِلُ
الفيل؟ أي المناطق التي إذا ضرب فيها يُقتَل، أو على الأقل لا يقاتل؛
فقالوا: إذا أُصِيبَ في عينه ومشفاره (خرطومه) فلا فائدة منه. وعَلِم
المسلمون هذه الحقيقة، فتقدم القعقاعُ وأخوه عاصم بفرقتين من اتجاهين
مختلفين، وهجما على الفيل، وكان كل تركيز حراس الفيلة أن يحموا التابوت
والأحزمة، فتركوا مقدمة الفيل في وجه المسلمين؛ لأنهم لا يتخيلون أن يهجم
المسلمون على الفيل نفسه، وحمل كلا البطلين العظيمين رمحًا في يده ونزلا في
تناسق عجيب في لحظة واحدة -سبحان الله- على عيني الفيل، فوضعا رمحًا في
عينه اليُمنى، وآخر في عينه اليُسرى؛ فخار الفيل، وجلس وجثا على ركبتيه؛
فنقل سيدنا القعقاع بن عمرو الرمح بيده اليسرى وتلقى السيف بيده اليمنى،
وأطاح بخرطوم الفيل؛ فسقط الفيل الأبيض قتيلاً في أرض المعركة في أوائل
اليوم الثالث، وكان لذلك أثر شديد على أهل فارس، فالمسلمون يقتلون الأفيال!
وهذا أكثر مما توقعوه أو تخيلوه، وفعل حمال بن مالك والربيل بن عمرو
بالفيل الأجرب كما فعل سيدنا القعقاع وسيدنا عاصم، ولكنهما اتفقا أن يضرب
واحد منهما الخرطوم، بينما يضرب الآخر عينًا من عيني الفيل، ولكنه لم يمت
مثلما مات الفيل الأبيض، وكان ذلك خيرًا للمسلمين؛ لأنه عندما أصيب هذه
الإصابة القاتلة ترك أرض المعركة، وفَرَّ في اتجاه نهر العتيق هربًا من
القتل، وكما نعلم فإن الأفيال كلها كانت تبعًا له، فعندما هرب سارت خلفه في
اتجاه نهر العتيق، وعبرت الردم إلى الناحية الأخرى -سبحان الله- دون أن
يشترك المسلمون في قتل أي فيل آخر من الأفيال الإحدى والثلاثين؛ لأنهم
تركوا أرض المعركة بتوفيق الله عز وجل وبفضله وبرضاه عن أهل القادسية.
وعد الله ورسوله بفتح فارس

يقوم قيس بن مكشوح رضى الله عنه -وهو
فاقد إحدى عينيه- يقول للمسلمين: "يا معشرَ المسلمين، إنَّ الله قد مَنَّ
عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فأصبحتم بنعمته
إخوانًا: دعوتكم واحدة، وأمركم واحد بعد أن كنتم يعدو بعضكم على بعض عَدْوَ
الأسد، ويتخطف بعضكم بعضًا تَخَطُّفَ الذئاب؛ فانصروا الله ينصرْكم،
وتَنَجَّزُوا من الله فتحَ فارس؛ فإن إخوانكم أهل الشام قد مَنَّ اللهُ
عليهم بفتح الشام، وامتلاك القصور الحُمْرِ. فهو يذكرهم أن الرسول صلى الله
عليه وسلم كان قد بشرهم من قبلُ بامتلاك القصور الحمر في موقعة الأحزاب
وهم يحفرون الخندق، كما بشَّرَهم بفتح فارس والشام واليمن، وهو يقول لهم:
إنهم بالفعل قد امتلكوا القصور الحمر التي بشرهم بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ومِنْ ثَمَّ سيمتلكون المدائن، والمدائن بعد القادسية، ولكي
يمتلكوها لا بُدَّ من النصر في القادسية، فهو يبشرهم بالنصر، ويثبتهم على
ذلك.

وفي هذا اليوم -كما
ذكرنا- وصل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص بجيشه، وكما فعل القعقاع بن عمرو
التميمي يفعل هاشم بن عتبة، فينزل في أرض القتال ويطلب المبارزة، ويبارز من
الفرس مَن شاء الله عز وجل أن يبارز؛ فيقتل
منهم الكثير، ويُثبِّت ذلك المؤمنين، ويفُتَّ من عَضُدِ أهل فارس، وكان
القتال في هذا اليوم في منتصف أرض القادسية لا في جهة المسلمين، ولا في جهة
الفرس، وكانت أعداد الفرس ضخمة كما ذكرنا من قبل، وكان القتال أيضًا في
منتهى الشدة في ذلك اليوم.

وفي
هذه الأثناء تصل أنباء إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص بوجود مخاضة من مخاضات
أهل فارس في يمين القادسية (مكان تتجمع فيه المياه وكان المسلمون يأمنون
هذه الناحية)؛ يستطيع الجيش الفارسي أن يخوض من خلاله، وهكذا حتى أثناء
احتدام القتال له عيون يبحثون له عن الأماكن التي يؤمّنون بها جيش
المسلمين؛ فعلموا أنه من الممكن إذا عَلِمَ الفرس بها أن يعبروا منها
للمسلمين، وحتى هذه اللحظة لم يعلموا بها، فاستدعى سيدنا سعد بن أبي وقاص
فرقتين من المسلمين وأَمَّر عليهما اثنين ممن يرى فيهما البأس والشدة،
وهما: طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معديكرب، وأمرهما بالوقوف على هذا
المكان وحراسته، وألا يُحْدِثوا أمرًا إذا لم يعلم الفرس بهذا المكان، وإذا
علم الفرس فَقِفُوا لهم في هذا الموقف وقوفَ الرجال؛ وهذه نصيحة سيدنا سعد
لهما.
حوار بين طليحة وعمرو بن معديكرب

لكن
بعدما يرجع رسول سيدنا سعد بن أبي وقاص يقف طليحة وعمرو يتحاوران، ونحن
نتذكر حوارهما السابق قبل القادسية، عندما طلب طليحة أن يدخل إلى جيش فارس؛
ليأسر واحدًا منهم، فرفض عمرو، وهذا الحوار يتكرر مرة أخرى، فيقول طليحة
لعمرو: أرى أن نخوض هذه المخاضة، ونهجم على الفرس من خلفهم. هذا مع العلم
أن قوته لا تتعدى 60 مقاتلاً من المسلمين، وجيش الفرس كما نعلم وصل تعداده
بعد مقتل 12 ألفًا إلى 110 آلاف؛ فقال له عمرو: أرى أن نعبر لهم من أسفل.
فطليحة يرى أن يعبر المخاضة ونهر العتيق ويفاجئ الجيش من الخلف، وعمرو يرى
أن يعبر إلى داخل أرض القادسية ويقاتلهم من الداخل، وكان الاثنان على خطأ؛
فهذا عكس ما أمرهما به سيدنا سعد بن أبي وقاص، ولكن رأي عمرو كان فيه بعض
الصواب؛ فهو يَوَدُّ أن يقاتل في أرض المعركة بحيث إذا حدثت هزيمة يستطيعون
العودة، أما طُلَيحة فيريد أن يعبر المخاضة إلى أرض فارس من ورائهم
ويقاتلهم، وفي ذلك صعوبة في العودة إذا حدثت هزيمة؛ فقال طليحة: ما أقوله
أنفع للناس. فقال له عمرو: أنت تحمِّلُني ما لا أطيق. فتركه طليحة بن خويلد
الأسدي، وخاض المخاضة وحده -وللمرة الثانية يكرر نفس الفعل- ودخل إلى
الجيش الفارسي بمفرده، وكان الظلام قد حَلَّ في اليوم الثالث من أيام
القادسية، ونفَّذ -أيضًا- عمرو بن معديكرب رأيه، وعبر بالجيش من أسفل،
واشتبك في قتال مع الفرس فاستبطأهم سيدنا سعد بن أبي وقاص، وكان من داخله
يشعر أنه سيحدث أمر مثل ذلك؛ فأرسل لهما قيس بن مكشوح رضى الله عنه في
70 من المسلمين، وأَمَّره عليهما إذا وصل إلى أرض القتال، وبالفعل يصل
سيدنا قيس؛ فيجد عمرو بن معديكرب مشتركًا في قتال مع الفرس، فيدبر عملية من
عمليات الانسحاب الشاقة، وينسحب بالفرقة المسلمة من هذا المكان الصعب إلى
جيش المسلمين، ويلوم سيدنا سعد بن أبي وقاص عمرو بن معديكرب على إقدامه غير
الطبيعي على قتال الفرس، ولا نعلم ماذا حدث لطليحة؟! فقد دخل المخاضة ولم
يعرف أحد عنه شيئًا؛ ثم سأله عن طليحة فلم يجد عنده خبرًا، واستمر القتال
حتى منتصف الليل، ثم سمع المسلمون والفرس شيئًا عجيبًا داخل أرض فارس خلف
الجيوش الفارسية كلها بالقرب من خيمة رستم، حيث أطلق سيدنا طليحة بن خويلد
الأسدي تكبيرات ثلاثة: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر! بأعلى صوته؛ فتوقف
القتال عندما سمعوا هذا الصوت، وانفصلت الجيوش وعاد طليحة بن خويلد الأسدي
في الظلام مرة أخرى من المخاضة نفسها إلى جيش المسلمين، وأخبر سيدنا سعد
بن أبي وقاص بما فعل، وكان الهدف من ذلك إلقاء الرهبة والرعب في قلب الفرس،
وبالطبع لم يفكر طليحة في عملية استشهادية مثلما فعل من قبل، ولكن كان
لهذا الفعل أثر شديد ألقى الله به الرعب في قلوب أهل فارس، وشَدَّ به من
أزر المسلمين؛ فعاتبه سيدنا سعد، ثم عفا عنه لعلمه أنه يبغي النصر للمسلمين
والعزة لهم.
رستم يُصِرّ على مقاتلة المسلمين زحفًا

نعلم
أنه في كل ليلة تنفصل الجيوش، ولكن في هذه الليلة بعد تكبير سيدنا طليحة
انفصلت الجيوش نسبيًّا، ولكن لم ينته القتال تمامًا، فكل فريق من الفريقين
يود مواصلة القتال؛ فتجهزت الصفوف الإسلامية مرةً أخرى صفوفًا كما تفعل،
وتجهزت الصفوف الفارسية كذلك، وخرج فرسان المسلمين في منتصف الليل يطلبون
المبارزة (كأنه أول القتال: فارسًا لفارس) فلم يخرج لهم أحد من الفرس،
وأَصَرَّ رستم على الزحف (أي أن يقاتل المسلمين بجماعة من الفرس، وليس
فردًا لفرد؛ لأن المهارة الإسلامية تقتل أفضل الأفراد في الجيش الفارسي،
وفي ذلك خسارة كبيرة لهم)، وعلم سيدنا سعد بن أبي وقاص أن الفرس يبغون
الزحف؛ فأمر الجيوش بألا تزحف إلا بعد أن يلقي ثلاث تكبيرات مثلما حدث في
أول يوم للقتال إيذانًا ببدء القتال، ثم يطلق سيدنا سعد بن أبي وقاص
التكبيرة الأولى؛ فتتحمس الجيوش للقتال وتستعد حتى تهجم على الفرس بعد
التكبيرتين، وفي هذه الأثناء يتراشق الطرفان بالسهام والنبال، فيقع سهم في
قلب سيدنا خالد بن يعمر التميمي، وكان صديقًا حميمًا لسيدنا القعقاع بن
عمرو التميمي، فقد كان بجانبه في المعركة، وفجأة وقع السهم في قلب خالد بن
يعمر فقتله، واستشهد رضى الله عنه ،فتعجل سيدنا
القعقاع الأمر، وحركه استشهاد صديقه لأن يحمل بفرقته (قبل أن يطلق سيدنا
سعد بن أبي وقاص التكبيرة الثانية أو الثالثة) على قلب الجيش الفارسي (ونحن
نعلم أن سيدنا القعقاع يقف مع قبيلة تميم في قلب الجيش أمام قطاع بهمن،
ونعلم أيضًا أن بهمن والبيرزان قد ماتا، وأصبح قطاعهما في الأمام) فحمل
عليه القعقاع، ولكن ماذا كان رَدُّ فعل سيدنا سعد بن أبي وقاص؟

حكمة سعد بن أبي وقاص:
كان
سيدنا سعد يعلم مدى حرص سيدنا القعقاع على نصر المسلمين، وأن هذا الخطأ
منه ليس فيه كِبْرٌ أو اعتراض على الأمير، ولكنها حماسة المعركة؛ فيقول
سيدنا سعد: اللهم اغفرها له وانصره (ونحن نعلم أن دعوة سيدنا سعد بن أبي
وقاص مستجابة)، قد أَذِنْتُ له إذْ لم يستأذني. وذلك حتى لا يُنزل الله عز وجل سخطه
على الجيش بمعصية أحد الجنود، ويقاتل سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي في
الليل قتالاً شديدًا، وتدور رَحَى المعركة على قبيلة تميم، ثم يطلق سيدنا
سعد بن أبي وقاص التكبيرة الثانية، والمسلمون يشعرون بقتال سيدنا القعقاع،
وكل الناس يتشوقون للقتال، وقد قام خطباء المسلمين في هذه الليلة الثالثة
يحفزون المسلمين ويرغبونهم في الجنة؛ فيقول لهم الأشعث بن قيس: يا معشر
العرب، إنه لا ينبغي أن يكون هؤلاء القوم (قبيلة تميم) أجرأ على الموت،
وأسخى نفسًا منكم. لا تجزعوا من القتل فإنه أماني الكرام، ومنايا الشهداء.

ويقوم
حنظلة الكاتب كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول: يا أيها الناس،
لا تجزعوا مما لا بُدَّ منه؛ فالصبر أنجى من الفزع. وكذلك قام ضِرَار بن
الخطاب رضى الله عنه (وكان قد عاد مع جيش الشام
إلى أرض القادسية)، وقام غيره يحفزون المسلمين. وبعد أن أطلق سيدنا سعد بن
أبي وقاص التكبيرة الثانية حملت بعض قبائل المسلمين دون انتظار للتكبيرة
الثالثة من سيدنا سعد بن أبي وقَّاص، وممن حمل: عاصم بن عمرو التميمي أخو
القعقاع، ويبدو أنه شعر أن القعقاع في مأزق شديد بمفرده في مواجهة الجيش
الفارسي؛ فحمل استبطاءً لتكبيرة سيدنا سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه الثالثة،
فحمل بكل قبيلة تميم المتبقية، وحملت قبائل أسد وكندة وبجيلة وهؤلاء
يُكَوِّنون أكثر من ربع الجيش الإسلامي، وهؤلاء جميعهم حملوا في لحظة واحدة
دون استئذان من سيدنا سعد الذي كان يرى الفرق تحمل الواحدة تلو الأخرى،
ويقول: اللهُمَّ اغفر لها وانصرها، قد أَذِنتُ لهم إذ لم يستأذنوني. ولما
رأى أن جميع الفرق ستخرج؛ أطلق التكبيرة الثالثة حتى يصبح الأمر من عنده،
وبالفعل خرجت الجيوش الإسلامية كلها بعد منتصف الليل بقليل تحصد الفرس
حصدًا في هجوم شديد، وضغطت على الجيوش الفارسية كلها قرب نهر العتيق، وفي
هذه الليلة يستشهد أرطاة بن كعب وكان يحمل لواء النخع، وهذا اللواء أعطاه
له رسول الله عز وجل وقال له: "إن هذا اللواء يحمله أرطاة ما بقي". وظل
يحمل هذا اللواء حتى استشهد، وقبل أن يسقط منه التقطه دريد بن كعب أخوه،
فاستُشهد، فالتقطه قيس بن كعب أخوهم الثالث، فاستشهد. وممن استشهد في هذا
اليوم أيضًا سيدنا
عبد الله بن أم مكتوم
وهو الأعمى الذي نزلت فيه سورة (عبس وتولى)، وكان له عذره، إذ كيف يخرج
للقتال وهو أعمى؟! ولكنه يحمل راية المسلمين ويقول: أُكَثِّرُ سواد
المسلمين في سبيل الله. أي أنا أقف فقط؛ لكي يتخيل الفرس أن عددنا أكثر مما
يعرفون

________________________________________________
التحرك نحو القادسية 12107010_906912522734669_1561722651500059538_n
حمدي عبد الجليل
حمدي عبد الجليل
المشرف العام
المشرف العام
ذكر عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28271
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
التحرك نحو القادسية 1393418480781

التحرك نحو القادسية 140

التحرك نحو القادسية Empty رد: التحرك نحو القادسية

الأحد 29 يناير 2012, 21:34
اليوم الرابع للقادسية

د. راغب السرجاني


مقدمة

أتى
اليوم الرابع للقتال، وكان الفريقان يقاتلون منذ أكثر من أربع وعشرين
ساعةً متصلةً، ولم ينقطع القتال إلا نحو ساعة واحدة بعد صلاة العشاء بعد
تكبيرة طليحة بن خويلد الأسدي؛ ولكن القتال كله استمر من صباح اليوم الثالث
حتى صباح اليوم الرابع، وأشرقت شمس اليوم الرابع، ورأى
سعد بن أبي وقاص
أن المسلمين يتواصون بالقتال؛ فعلم أن النصر في هذه الليلة "ليلة الهرير"
مع المسلمين، وكان سعد بن أبي وقاص من فوق حصن "قديس" لا يرى وقائع القتال
بصورة واضحة، وليس عنده من الجنود من يذهب ويعود إليه بالأخبار؛ لأن كل
الجنود كانوا قد اشتركوا في القادسية لشدة المعركة، ونال التعب من
الفريقين، وكان واضحًا أن الحرب تقترب من نهايتها، فكل فريق قد استُنفِدَتْ
طاقاته سواء الطاقات البدنية أو الخططية، فالطرفان لم يناما منذ أربع
وعشرين ساعة، وكل فريق يريد للموقعة أن تنتهي.

أدرك هذه الحقيقة القعقاع بن عمرو التميمي رضى الله عنه فقال
للمسلمين: إن الدَّبَرَة بعد ساعة لمن بدأ القوم (أي أن ميعاد الهزيمة قد
اقترب، فمن يبدأ في التخاذل سيكون من نصيبه الهزيمة؛ لأن الأمر شديد على
الطرفين) {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [النساء: 104]؛
فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر، فآثِرُوا الصبرَ على الجزع.
وبدأ يحمِّس المسلمين، وقام خطباء المسلمين من جديد يحمسون المسلمين،
وكأنهم في بداية القتال، وبدأ المسلمون في الهجوم الشديد على الجيوش
الفارسية، وفي بداية ذلك اليوم مال النصر إلى حَدٍّ كبير إلى صفِّ
المسلمين، وكان القتال كله في قطاع الجيش الفارسي، كما كان الجيش الإسلامي
بكامله في قطاع الجيش الفارسي يضغط عليه عند نهر العتيق الذي يقع خلف الجيش
الفارسي، وكان الجيش الفارسي يتكون من خمسة قطاعات، منها قطاع البيرزان
وقطاع بهمن وكلاهما دون رئيس ودون قائد؛ لأن البيرزان وبهمن قُتِلا، وبقي
رستم في منتصف الجيوش في قطاع بهمن حيث تقع الطائرة التي يقيم فيها.

خطة للوصول إلى قلب الجيش الفارسي:
قام القعقاع بن عمرو التميمي رضى الله عنه بتدبير خطة حتى يُنْهَى القتال الشديد على المسلمين وعلى الفرس؛ ففكَّر في أمر فكر فيه من قبلُ المثنى بن حارثة رضى الله عنه حيث
فكر في أن يأخذ قبيلة تميم وهي قبيلته، ويأخذ معه نجباء المسلمين من
المقاتلين، أي أن يأخذ أفضل الجنود من كتيبة الفرسان ويدك بهم قلب الجيش
الفارسي، وكان يرأسه بهمن جاذويه، وكان هدف القعقاع بن عمرو رضى الله عنه أن
يفصل الميمنة عن الميسرة؛ فتنقطع الاتصالات بين الفريقين، ومن الممكن بعد
ذلك أن يفقدوا السيطرة، ويفقدوا صلتهم بقائدهم، وكان هدف القعقاع رضى الله عنه أن
يصل إلى رأس الأفعى؛ يصل إلى رأس رستم قائد الفرس، ويقول: إذا قتلت رستم
ضاعت معنويات الجيش الفارسي كله. وبدأت بالفعل عملية من أصعب العمليات؛ لأن
قطاع بهمن فيه نحو عشرين ألفًا، وقبيلة تميم كلها تقريبًا ثلاثة آلاف؛ ومن
فضل الله على المسلمين أن المساحة العرضية لأرض القادسية كانت ضيقة، فكان
الجيش الفارسي مرتبًا في صفوف بعضها وراء بعض، وهذا كان من فضل الله عز وجل وقد أسهم ذلك في إلحاقِ الهزيمة بالفرس.

وبدأ القعقاع رضى الله عنه ومعه
قبيلة تميم في الضغط على الفُرْسِ، ويبدأ قلب الفرس في الانهيار تدريجيًّا
أمام الضغط الشديد للمسلمين، وفي الوقت نفسه تمارس قبائل بني قحطان
اليمنية الضغط على ميمنة الفرس بقيادة الهرمزان، وتضغط قبيلة قيس على مهران
في الميسرة؛ حتى لا تلتف ميسرة أو ميمنة الفرس حول الجيش الإسلامي من
الخلف، ويستمر المسلمون في الضغط على الفرس إلى نهر العتيق، وكانت أعداد
الجيش الفارسي ضخمة، فهناك مائة وعشرون ألفًا موجودون قبل نهر العتيق،
وهناك مائة وعشرون ألفًا ينتظرونهم في الناحية الأخرى، وكان قد قتل من
الفرس نحو خمسة وعشرين ألفًا حتى هذه اللحظة، وتبقَّى -من هذا الجيش- خمسة
وتسعون ألفًا، وهذا ما زال عددًا كبيرًا.

المدد الإسلامي يصل أرض المعركة

في هذا الوقت الصعب يصل المدد المتبقي من الشام، وكان القعقاع بن عمرو رضى الله عنه قد وصل على رأس ألف، وتبعه هاشم بن عتبة
بن أبي وقاص على رأس سبعمائة، والآن وصل الآلاف الأربعة الجدد، أو وصل
منهم ثلاثة آلاف، وهناك ألف وصلوا في اليوم الخامس من المعركة، فأصبح كل
هذا المدد القادم يتمتع بروح عالية، وهو متعطش إلى الشهادة في سبيل الله.

ودخل
المدد كله في القلب مع قبيلة تميم فزاد الضغط على رستم، وبدأ الفرس
ينهارون انهيارًا سريعًا حتى استطاع المسلمون أن يصلوا إلى قلب الجيش
الفارسي، ووصلت خيول المسلمين إلى نهر العتيق؛ ففصلت بذلك ميمنة الفرس عن
ميسرتهم، وكان المسلمون يقاتلون بضراوة لم نسمع عنها كثيرًا في التاريخ،
حتى إن أحد المسلمين قطعت يده، واستمر يقاتل بيده الأخرى، حتى إن أحد
المسلمين قد مَرَّ عليه، فقال له: من أنت يا عبدَ الله؟ فقال: أنا رجل من
الأنصار {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]. ثم استشهد رضى الله عنه وكان المسلمون مصممين على إنهاء إمبراطورية الفرس في هذه المعركة.

وصل
المسلمون إلى طائرة رستم حيث مقر القيادة، وفي هذه اللحظة يأذن الله للريح
أن تهب شديدة من الغرب إلى الشرق، وكانت عادتها في مثل هذه الأيام أن تهب
من الشرق إلى الغرب، ويسميها العرب ريح الدَّبُور، وهي التي تمرُّ في عكس
الاتجاه الذي تهب فيه طول العام، هبت الريح؛ فاقتلعت طيارة رستم من شدتها،
وقذفت الريح بالرمال في أعين الفرس، وكلهم مواجهون للرياح القادمة عليهم من
الغرب؛ فكان هذا نصرًا من الله لا دخل للمسلمين فيه {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

ووصل
المسلمون إلى الطائرة، ونظروا فيها فلم يجدوا رستم؛ فقد اختفى رستم، وينظر
المسلمون يمينًا ويسارًا فلا يجدونه، فيستمرون في القتال وفي حصار اليمين
واليسار، وكان في خلف طائرة رستم مجموعة من البغال وعليها مئُونة الجيش،
وعليها الأسلحة، وعليها المدد القادم من المدائن للجيش الفارسي.

هلال بن عُلَّفَةَ رضى الله عنه يقتل رستم:
وفي أثناء اشتداد القتال بالقرب من البغال إذا بهلال بن عُلَّفة رضى الله عنه وهو يضرب بسيفه يطيش السيف وهو يضرب به؛ فقطع حملاً من أحمال هذه البغال، فسقط هذا الحمل على الأرض، فسمع هلال بن علفة رضى الله عنه صراخًا من خلف البغل، إذن هناك من يختفي وراء هذا البغل؛ فصرخ هذا الرجل وأسرع بالفرار، فنظر إليه هلال بن علفة رضى الله عنه فوجد
عليه الأبهة والعظمة، فقال لنفسه: أهو هو؟ أي: هل هو رستم؟ فلما رآه هلال
بن علفة يجري بهذه السرعة وهذه الأبهة التي كانت عليه، قال: لا أفلحت إن
نجا. وبالفعل أسرع وراءه حتى يلحق به، ويصرخ فيه رستم يقول: "بابيه".
ومعناها بالفارسية: كما أنت، أي: قِفْ كما أنت؛ ظن رستم أنه أحد جنوده
الذين يطيعونه.

ولكن هلال بن علفة رضى الله عنه كان
مصممًا على إدراك رستم، فقذفه رستم برمح كان في يده؛ فأصاب قدم هلال بن
علفة، ولكن ذلك لم يثنه، فتبعه، فقذف رستم نفسه في نهر العتيق، وبدأ يعوم،
فدخل هلال بن علفة وراءه في النهر، وجذبه من قدمه إلى خارج النهر، ثم ضربه
بسيفه على رأسه؛ ففلق هامته، فكانت هذه هي نهاية رستم. وعندما قتله أدرك
أنه قتل رستم عظيم الفرس وقائدهم، لِمَا رأى على ثيابه وعلى تاجه من العظمة
ومن الجواهر ومن الأشياء الثمينة، فوقف هلال بن علفة على كرسي رستم في
مكان الطائرة، بعد أن قامت الرياح بقذف الطائرة بعيدًا، ونادى: قد قتلت
رستم ورب الكعبة، إليَّ أيها المسلمون. وظل ينادي بصوتٍ عالٍ أنه قد قتل
رستم، فعلم المسلمون ذلك وتجمعوا حوله، واتخذوا من طائرة رستم مكانًا
يتجمعون حوله، وعلم الفرس أن قائدهم رستم قد قُتل، فانهارت معنوياتهم،
وأسلموا رقابهم للمسلمين.

الجيش الفارسي ينهار

أصبحت
ميسرة الفرس محصورة تمامًا بين قبيلتي قيس وبكر من ناحية، وبين قبيلة تميم
من ناحية أخرى، كما كان هناك بعض المستنقعات التي لا تمكّن الجيش الفارسي
من الفرار، وتقدمت قبيلة قيس وحاصرت الميسرة تمامًا، وبدأ المسلمون في حصد
ميسرة ومؤخرة الجيش الفارسي، وعلى الناحية الأخرى كان الجالينوس والهرمزان
يقفان قريبًا من الردم، حيث كانت مقدمة الفرس وميمنتهم قريبة من الردم وهو
على نهر العتيق، وبدأ المسلمون يبيدون ميسرة الفرس، في حين يدعو الجالينوس
جيشه للهرب من المنطقة، وكان يريد الفرار بالجيش من أرض المعركة.

وبدأ
الجالينوس والهرمزان يقودان عملية الانسحاب للجيش الفارسي، فعبر الجالينوس
الرَّدْم، وبدأ الانسحاب في اتجاه الشمال وتبعه الهرمزان بعد ذلك، وبذلك
تكون منطقة الميسرة والمؤخرة للجيش الفارسي قد حصدت تقريبًا، وقُتِلَ
مُعْظَمُهم، ومن فرَّ من الجيش الفارسي قذف بنفسه في نهر العتيق، وسبح إلى
الناحية الأخرى حتى يهرب من سيوف المسلمين، وقتل في هذا اليوم من الفرس
ثلاثون ألف قتيل، وكان هذا قبل أذان الظهر في يوم 16 من شعبان سنة 15هـ،
وبدأ الفُرْسُ يُسْلِمون أَنفُسَهم للمسلمين، ووقعت الذلة والهوان في قلوب
الفرس وقوعًا شديدًا؛ حتى إنه يقال: إن المسلم كان ينادي على الفارسي،
فيأتيه فيعطيه سيفه، فيقتله به. وحقًّا إن المسلمين إذا ابتغوا العزة في
الإسلام أعزهم الله، وإذا ابتغوا العزة في غير الإسلام أذلهم الله، وهذا
الموقف تكرر في التاريخ الإسلامي بعد ذلك، ولكن على عكس الأمر؛ فعندما حدث
هجوم
التتار على الدولة العباسية،
كان الرجل من التتار ينادي على المسلم، ويأخذ سيفه ويقتله به، والمسلم لا
يدافع عن نفسه؛ لأن هذه الفترة كانت فترة من فترات الضعف الإسلامي، وكان
الناس منشغلين بالشعر والعطر والأغاني، وتركوا الجهاد وطاعة الله تعالى؛
فأذلهم الله حتى عاد النصر من جديد على صيحة "واإسلاماه" على يد
قطز -رحمه الله- في موقعة عين جالوت.
فالتاريخ فيه عِبَر وعظات، والمواقف تتكرر ونراها حتى يوم القيامة {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].
يقول المؤرخون: حتى كان الطفل الغلام الذي لم يبلغ الحلم من المسلمين
يَقتُل من الفرس من شدة هوان الفرس عليهم؛ حتى إنه رُئِي غلامٌ من قبيلة
النخع اليمنية يقود ستين فارسًا من الفُرْسِ ويأخذهم أسرى، والفرس يرفعون
أيديهم عالية. وخَلَتْ ساحة القتال تقريبًا من الفرس، وأصبح الجيش الإسلامي
هو الموجود فقط في المنطقة، وبدأ المسلمون في حصر الشهداء، فكان شهداء
المسلمين ثمانية آلاف وخمسمائة شهيدٍ طوال أيام القتال، وصدق فيهم قوله
تعالى: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
(169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] [آل عمران: 169، 170]. أما في يوم القادسية فلم يستشهد من المسلمين عدد يذكر مع شدة هجوم المسلمين على الفرس، إلا أن الله عز وجل مَنَّ بالنصر على المسلمين دون شهداء في ذلك اليوم، وقُتِلَ من الفرس من بداية القتال وحتى نهايته نحو أربعين ألف قتيل.

بطولات الصحابة رضى الله عنهما في القادسية:
في هذه الموقعة أسقط ضرار بن الخطاب رضى الله عنه راية
"درفش كابيان"، وهي راية الفرس العظمى ذات الشمس البنفسجية والقمر الذهبي،
وهي راية كبيرة وضخمة، وهي من أشهر وأكبر الرايات في التاريخ، وهذه الراية
لم تسقط حتى هذه اللحظة، والذي أسقطها ضرار بن الخطاب رضى الله عنه فسقطت ولم ترتفع مرة أخرى في هذا اليوم.

ويأتي أحد المسلمين وهو زيد بن صُوحَان t
-وهو صحابي جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- ويده مقطوعة،
ويجري فرحًا ويده قد قطعت من القتال؛ فأسرع إليه المسلمون حتى يعالجوه،
فذكر لهم وتذكر معه الصحابة أنهم كانوا في غزوة مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فغفا رسول الله صلى الله عليه وسلم غفوة، ثم أفاق فقال: "زيد وما زيد! يده تسبقه إلى الجنة". ولم يعرف الصحابة رضى الله عنهما ساعتها
من هو زيد الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع من يوم القادسية
فرحًا؛ لأنه علم أنه المقصود بهذا الرجل الذي تسبقه يده إلى الجنة، ثم لحق
به جسده الكريم في
موقعة الجمل, فلقد استشهد في موقعة الجمل رضى الله عنه بيدٍ واحدة.
تتبع الفارِّين:
وبعد أن انتهت هذه الملحمة الشديدة على المسلمين، بدأ سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه -كما كان يفعل خالد بن الوليد رضى الله عنه ، وكما كان يفعل المثنى بن حارثة رضى الله عنه من قبل- في تتبع فلول الهاربين من الجيش الفارسي، إنه إصرار شديد على محق الإمبراطورية الفارسية؛ حتى يُعْبَدَ الله عز وجل وحده.
وفرَّ
الهرمزان إلى الجنوب الشرقي حيث سيعبر بعد ذلك نهر الفرات متجهًا إلى
الأهواز جنوبي إيران، وهذه المنطقة فيها عز الهرمزان وفيها ملكه، وكان
الهرمزان قبل ذلك قد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتل
المسلمين، ولكنه خان عهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتل المسلمين
في القادسية، وها هو يهرب الآن من موقعة القادسية بعد هزيمة جيشه، وينتقل
بجيشه إلى منطقة الأهواز. وفرَّ الجالينوس إلى ناحية المدائن في اتجاه
النجف، وهي المنطقة التي عسكر فيها جيش الجالينوس قبل أن يدخل القادسية
مباشرة.

وفَرَّت فرقة أخرى من الفُرس في اتجاه الشمال بجوار نهر العتيق، فأرسل سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه القعقاع
بن عمرو التميمي وأخاه عاصم بن عمرو التميمي حتى يتتبعا الهرمزان جنوبًا،
وأرسل شُرَحبيل بن السِّمْط ليتتبع الفريق المتجه شمالاً في مطاردة سريعة
قصيرة، حتى يلحقوا بالفُلُول التي هربت من الجيش الفارسي، وبالفعل في أقلِّ
من ساعة كانت الجيوش الإسلامية قد لحقت بعدد كبير من الناحيتين، ثم عاد
القعقاع وعاصم رضي الله عنهما إلى القادسية وعاد شرحبيل بن السِّمْط،
فأبدلهما سعد بن أبي وقاص المهمة، أي أبدل كل واحد منهم مهمة الآخر، وقال
سعد للقعقاع وعاصم: اصعدا إلى الشمال. وقال لشرحبيل: انزل جنوبًا. وسعد رضى الله عنه بذلك يحفز القواد على اللحاق بالفرس؛ حتى يتداركوا فلولهم، ويَجِدوا في البحث عن الفرس، رضي الله عنهم أجمعين.

ثم أرسل سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه مقدمة الجيش بقيادة زهرة بن الحُوِيَّة رضى الله عنه لمتابعة الجالينوس؛ فتقدم زهرة بن الحُوِيَّة رضى الله عنه ليلاحق
الجالينوس، وكان الجالينوس قد عبر نهر الحضوض المتفرع من نهر العتيق،
وعبره الجالينوس على الردم، وكان هناك قنطرة في هذا المكان على نهر الحضوض
بعيدة، ولكن الجالينوس عبر بجيشه كله من فوق الردم، وبعد أن عبر فتح فجوة
في الردم؛ حتى لا يستطيع المسلمون أن يلحقوا به.

فجاء زهرة بن الحُوِيَّة رضى الله عنه فوجد الفجوة واسعة فاستعد بخيله، واستعد وقفز من فوق هذه الفجوة الواسعة، وتبع زهرة بن الحُوية رضى الله عنه في
مثل هذه اللياقة البدينة العالية ثلاثمائة فارس من المسلمين استطاعوا أن
يعبروا هذه الفجوة، وبقيت مقدمة المسلمين لم تستطع العبور فعبرت من فوق
القنطرة، وتقدمت الجيوش الإسلامية بقيادة زهرة حتى لحقت بالجالينوس على
حدود النجف (نحو أربعة كيلو مترات من القادسية)؛ فوجدوا أن الفرقة كبيرة،
وجلست في هذا المكان تستريح من القتال وتنتظر حتفها، ووجد الفرس المسلمين
على رءوسهم؛ فقاتل المسلمون هذه الفرقة من فرقة الجالينوس وقتلوا منهم
الكثير، وقتل زهرة بن الحُوِيَّة رضى الله عنه
الجالينوس بنفسه، ولم يكن يعرف أنه الجالينوس، وبعد أن قتله أخذ سلبه وعاد
به إلى سعد بن أبي وقاص، فعرف أسرى الفرس ملابس الجالينوس، وعرف زهرة أنه
قتل الجالينوس نفسه.

وهذا
ثالث قائد من القواد الذين تحت رستم يُقتل في موقعة القادسية، وكذلك قُتِلَ
مهرانُ الرازي في الميسرة، فكل قواد الفرس قد قتلوا باستثناء الهرمزان فقط
الذي فَرَّ من موقعة القادسية ناحية الأهواز؛ فلقي سعد بن أبي وقاص زهرة
بن الحُوِيَّة رضى الله عنه بعد
أن عاد من هذه الموقعة القصيرة بالقرب من القادسية وقد لبس لباس
الجالينوس، وهذا اللباس كله أبهة وعظمة وجواهر ثمينة، فقال له: هل أعانك
أحد على قتله؟ وذلك حتى يوزع سلب الجالينوس بالعدل؛ لأن سلبه كثير. فقال
زهرة بن الحُوية رضى الله عنه نعم. فقال سعد: مَنْ؟ فقال زهرة رضى الله عنه الله!! فسكت سعد بن أبي وقاص، ولكنه أعاد النظر، وقال: ولكنَّ هذا كثير. فأخذ سعد منه جزءًا من السلب، وأرسل به إلى
عمر بن الخطاب رضى الله عنه فرد عليه عمر بن الخطاب رضى الله عنه الرسالة:
أنا أعلم بزهرة منك، فأعِدْ له سلبه، وأعطه خمسمائة درهم من عندي من بيت
مال المسلمين. يأخذهم زهرة بن الحُوية ردًّا لاعتباره.

عاد
المسلمون إلى القادسية وبدءوا في معالجة الجرحى، وتأتي النساء -اللاتي
خرجن مع الجيش لطول المسافة بين المدينة المنورة وبين القادسية، وكن في
"عُذَيب الهجانات" في القادسية- بالمياه لسقي الجرحى المسلمين، ولتضميد
جراحهم، وبدأنَ يقمن بدورهن.

وطلب سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه من
هلال بن علفة أن يحدد له المكان الذي قتل فيه رستم، فيذهب هلال بن علفة
ويأتي برستم من بين البغال، فيأمر سعد بن أبي وقاص هلال بن علفة رضى الله عنه أن
يأخذ سلب رستم، وكان سلبه ثمينًا جدًّا، فقد باعه هلال بن علفة بسبعين ألف
درهم (هل كان رستم ذاهب إلى الحرب أم إلى النزهة؟!)، وضاعت العباءة التي
كان يلبسها رستم وتقدر بمائة ألف، وفي الغالب جرفها تيار الماء عندما قذف
بنفسه في نهر العتيق.

وتأتي
صلاة العشاء وكان يومًا طويلاً، وعندما قام المسلمون لأداء صلاة العشاء
اكتشفوا أن مؤذن المسلمين في القادسية قد استُشهد في الموقعة، فبدأ
الصحابة رضى الله عنهما يتسابقون إلى الأذان،
حتى إنهم يكادون أن يقتتلوا، مع أنهم كانوا من لحظات يسيرة في جهادٍ في
سبيل الله؛ ولكنهم يدركون فضل وقيمة الأذان وأجره العظيم، أما نحن الآن
فنتباطأ في رفع هذه الشعيرة الإسلامية الكبيرة، بينما كان يريد كل واحد من
الصحابة أن يأخذ هذا الشرف، ويصبح من أطول الناس رقابًا يوم القيامة؛ ولشدة
خلاف الصحابة رضى الله عنهما حول من يقوم برفع الأذان، قام سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه بعمل قرعة بين الصحابة لمن يرفعه.

بشارة النصر

قام سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه بكتابة رسالة إلى عمر بن الخطاب بعد انتهاء المعركة في يوم 17 من شعبان، وهو خامس يوم من أيام القادسية، يقول له فيها:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونثني عليه الخير كله، أما بعد..
فإن
الله نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال
طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم يَرَ الراءون مثل زهائها فلم
ينفعهم الله بذلك، بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين. وقد اتبعهم
المسلمون على الأنهار، وعلى طفوف الآجام، وفي الفجاج، وأصيب من المسلمين
سعد بن عبيد القارئ وفلان وفلان ورجال من المسلمين لا نعرفهم. وسعد بن عبيد
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد كل المشاهد مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم، بداية من بدر وحتى تبوك إلى أن تُوُفِّي الرسول صلى الله
عليه وسلم، وكان يسمى سعد بن عبيد القارئ؛ لأنه كان يؤم المسلمين في وجود
الرسول صلى الله عليه وسلم، في مسجد قباء، فالرسول كان يؤم المسلمين في
المدينة وكان هو يؤم المسلمين في مسجد قباء.

وقد
مَرَّ علينا ذكر سعد بن عبيد في الفتوح عندما قام أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب يحث الناس على الخروج للجهاد، فكان أول من قام أبو عبيد بن مسعود
الثقفي، وكان عمر رضى الله عنه قد ظل يستنفر المسلمين ثلاثة أيام متواصلة ولم يخرج أحد، ثم قام بعد أبي عبيد بن مسعود سعد بن عبيد رضى الله عنه والثالث
سليط بن قيس، وقد استشهد أبو عبيد وسليط بن قيس في موقعة الجسر، وبقي سعد بن عبيد القارئ ليستشهد هو أيضًا في موقعة القادسية.
كَلَّف سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه الصحابي الجليل سعد بن عُمَيلة بتوصيل رسالة إلى المدينة المنورة على أن يسلمها إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه وكان
عمر رضى الله عنه يخرج بنفسه كل يوم بعد صلاة الضحى حتى الظهيرة على أبواب
المدينة في الصحراء ينتظر البشير، وعندما يرى أي قادم عليه من العراق
يسأله: هل أنت من العراق؟ فيقول له الرجل: لا. وهكذا كل يوم، والمسلمون قد
خرجوا للقتال منذ شهور، حتى وصل سعد بن عميلة رضى الله عنه بالرسالة إلى مشارف المدينة المنورة، وهو راكب على ناقته فيسأله عمر رضى الله عنه هل أنت من العراق؟

فيقول
له: نعم. فيستبشر عمر بن الخطاب، وصاحب الرسالة ما زال فوق الناقة لا يعرف
عمر، وعمر بن الخطاب يمشي على الأرض، فيقول له: وما فعل المسلمون
بالفُرْسِ؟ فيقول: نصرهم الله وأهلك العدو. والناقة تسرع في اتجاه المدينة
وعمر بن الخطاب يجري بجوار الناقة، وسعد بن عميلة يكلمه من فوق الناقة؛ حتى
دخلا المدينة فسمع سعد الناس تقابل أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه وتقول
له: السلام عليكم يا أمير المؤمنين. فقفز سعد بن عميلة من فوق الناقة،
وقال له: هلاَّ أخبرتني. فيقول: لا عليك يا أخي (المهم أن نعرف أخبار
المسلمين). فيأخذ عمر رضى الله عنه الرسالة،
ويصعد فوق المنبر، ويجتمع المسلمون كلهم في المسجد، ثم يطمئنهم أن الله عز
وجل قد فتح عليهم، وأن الله قد مَنَّ عليهم بالنصر، وأنه قد أهلك فارسًا،
وأسقط راية الفرس العظمى.

ونقل لهم أخبار استشهاد بعض المسلمين، وبكى عمر بن الخطاب على استشهاد سعد بن عُبَيْد القارئ رضى الله عنه . فيقول سيدنا عمر بن الخطاب بعد أن علم بشهادة سعد بن عبيد القارئ: واللهِ لقد كاد قَتْلُ سعد بن عبيد يُنَغِّصُ عليَّ هذا الفتح.
فقد أثَّر موت الصحابي الجليل سعد بن عبيد في عمر بن الخطاب تأثيرًا شديدًا، ثم أخذ سعد بن أبي وقاص يعدِّد أسماء الشهداء مثل: عبد الله بن أم مكتوم، وأولاد الخنساءوغيرهم،
ثم يقول: ورجال من المسلمين لا نعلمهم، الله بهم عالم. ويقول سعد في
رسالته عن جنوده: وكانوا يدوون بالقرآن كدويِّ النحل إذا جَنَّ عليهم
الليل، وهم آساد الناس لا تشبههم الأسود. فهذه هي صفات الجيش الإسلامي:
عندما يأتي الليل يلجئون إلى الله، تسمع لهم دويًّا كدويِّ النحل، أما
الجيوش التي تأخذ أسماءً إسلاميةً فهي في تعاملها مع الاستعداد للمعركة
يُدخلون على الجنود بعض الترفيه عن الجيوش، فيأتون بأفلام يعرضونها عليهم،
أفلام كلها معصية يرفهون بها عن الجيش!!

أما الصحابة رضى الله عنهما في
حروبهم، كانوا إذا جَنَّ عليهم الليلُ يسرعون إلى القرآن الكريم حتى
يقرءوه، فكانوا يدوون كدوي النحل. ولنذهب إلى موقعة حطين، فماذا كانت حال
الجيش الإسلامي في موقعة حطين؟! كان صلاح الدين الأيوبي يمر على الخيام،
ويطمئن أن كل خيمة بالليل فيها صوت قرآن؛ فيعلم أن الجيش يقوم الليل،
وعندما يأتي خيمة لا يسمع فيها صوتًا للقرآن يقول: من هنا تأتي الهزيمة.
فيوقظهم ليقوموا الليل، وهم آساد الناس لا تشبههم الأسود، حتى الأسود لا
تشبه قتال هؤلاء الأبطال، ولم يَفْضُل من مضى منهم من بقي إلا بفضل
الشهادة.

توزيع الغنائم:
وبدأ
سعد بن أبي وقاص في توزيع الغنائم، فكان نصيب الفارس من المسلمين ستة
آلاف، وكانت غنائم القادسية أكثر الغنائم التي أخذها المسلمون حتى هذه
اللحظة، وكان رقم الألف لا يحلم المسلم بأن يمتلكه في ذلك الوقت، ولكننا في
أرض الواقع؛ فعندما نصر المسلمون ربهم أفاء الله عليهم بالنصر، وأفاء
عليهم بستة آلاف للفارس وألفين للرَّاجل، فالفارس يأخذ ثلاثة أضعاف
المترجّل.

ثم أعطى سعد بن
أبي وقاص أهل البلاء وكان عددهم خمسة وعشرين، وهم الذين أظهروا الجرأة
والشجاعة والإسراع لنيل الشهادة في سبيل الله عز وجل ، ووزع عليهم عطايا
أكثر؛ لتشجيع المسلمين على أن يستبسلوا دائمًا في المعارك، وكان منهم طليحة
بن خويلد الأسدي، وكان منهم القعقاع بن عمرو التميمي، وعاصم بن عمرو
التميمي، والربيل بن عمرو، والكثير من المسلمين.

صورة حضارية رائعة من سعد لكل القواد

ثم
أتى عمرو بن معديكرب وبشر بن أبي رُهْم إلى سعد بن أبي وقاص، أتياه
يسألانه العطاء وأن يعطيهما كما أعطى الناس؛ فبعث سعد بن أبي وقاص برسالة
إلى عمر بن الخطاب يقول له: إني قد أعطيت الناس كلهم، وهناك كثير من المال
ما زال متبقيًا، فلمن أعطي هذا المال؟ فقال له عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أعطِ حملةَ القرآن. فقام سعد رضى الله عنه بتوزيع الأموال على حفظة القرآن.

ولم
يأخذ عمرو بن معديكرب وبشر بن أبي رهم رضي الله عنهما؛ فأتياه في اليوم
التالي، وقالا له: أعطنا. فيقول: ما معكما من القرآن؟ فيقول عمرو بن
معديكرب: ليس معي شيء، فمنذ أسلمت شغلني الجهاد عن حفظ القرآن. فلم يعطه
سعد بن أبي وقاص، ولم يقبل منه سعد رضى الله عنه العذر،
ويأتي بشر بن أبي رهم، فيقول له سعد: ما معك من القرآن؟ فيقول له: معي بسم
الله الرحمن الرحيم (الحقيقة أنها ثقيلة في الميزان، ولكن سعد بن أبي وقاص
يريد حفظ سور وآيات من القرآن الكريم). ولم يرضَ منه سعد بن أبي وقاص
بذلك، فيبدأ بشر بن أبي رهم وعمرو بن معديكرب في نَظْمِ شعر يهجوان به سعد
بن أبي وقاص أمير الجيش الإسلامي، يقول بشر بن أبي رهم:

وسعد أميرٌ شرُّه دون خيرِه *** طويلُ الشذا كأبي الزناد قصير
طويل الشذا، أي: أذاه كثير. كأبي الزناد قصير، أي: هو ضعيف الحيلة. وكان سعد بن أبي وقاص في هيئته قصيرًا.
تذكر هداك اللهُ وقع سيوفنا *** بباب قديس والمكر عسير
[المكر من أهل الفرس]
عشيةَ ودَّ القومُ لو أن بعضهم *** يُعَار جناحي طائر فيطير
[أي من كثرة شدة بأسهم على الفرس يريدون أن يطيروا من أمام المسلمين]
إذا ما فرغنا من قراع كتيبة *** دلفنا لأخرى كالجبال تسير
وعند أمير المؤمنين نوافـل *** وعند المثنى فضـة وحريـر
[يقولون بأن أمير المؤمنين يعطي نوافل، والمثنى كان يعطي فضة وحريرًا، وأنت لا تعطي شيئًا]
ثم قام عمرو بن معديكرب يقول:
إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد *** قالت قريش ألا تلك المقاديرُ
[أي نصيبهما أن يقتلوا]
تُعْطي السويةَ من طعن له نفذ *** ولا سوية إذ تُعْطَى الدنانيرُ
أي عندما يكون هناك قتال فإننا ننال نصيبنا من الطعن والقتل، وعندما يُكتب النصرُ، وتأتي الأموال لا نُعطى شيئًا.
إنها عظمة الإسلام! وصورة حضارية رائعة من الصحابة رضى الله عنهما فهذان
اثنان من المسلمين يشكوان أمير الجيش، ولا يغضب عليهم، ولم يأمر بسجنهم،
وإنما أرسل بشكواهما إلى أمير المؤمنين في المدينة المنورة؛ فيأمر لهما
بالعطاء.

أمر عمر بن الخطاب
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما -بعد هذا الهجاء- أن يعطيهما على بلائهم،
أي لا يعطيهما على حمل القرآن، وإنما يعطيهما على بلائهم، فهما من أهل
البلاء. وأمره أمير المؤمنين أن يعفو عنهم، فقد كان في الجيش الإسلامي نوع
من الحب والترابط الشديد؛ حتى إن مثل هذا الأمر لم يكن يعكر من صفو الحرب
وصفو الجيش الإسلامي، وكان سعد بن أبي وقاص من الحكمة الشديدة، ومن الحزم
الشديد بحيث يوظِّف كل أمر من الأمور في المكان الذي يرى فيه مصلحة
المسلمين.

دروس وعبر من القادسية

إن
الفوائد والدروس والعبر من موقعة القادسية كثيرة، وهي عون للمسلمين في
معاركهم إلى يوم القيامة، ونجد أن الدرس الكبير المستفاد من القادسية أن
النصر يأتي نتيجة عاملين أساسيين هما: الإيمان بالله، والأخذ بالأسباب؛ وقد
اجتمع هذان العاملان للمسلمين في موقعة القادسية.

الإيمان بالله عز وجل أساس النصر:
الإيمان
بالله والأخذ بالأسباب من أهم عوامل وأسباب النصر، ولا بُدَّ للجيش المسلم
أن يجمع هذين العاملين حتى يتم النصر المرجو، ونرى في موقعة القادسية
انتصار فريق ضعيف على فريق قوي، وانتصار مجموعة قليلة على مجموعة كثيرة،
وهذا النصر لا يأتي بقوانين هذا الكون، إلا إذا تحقق في الجيش الإسلامي
عامل الإيمان، وعامل الأخذ بالأسباب، أما بالنسبة لعامل الإيمان نجد أن
تحركات الجيش الإسلامي منذ بداية خروجه من المدينة، حتى وصوله القادسية
واشتراكه في القتال تدل على أن الجيش الإسلامي كله يتمتع بإيمان قوي بالله عز وجل ؛ نرى ذلك في وصية عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى
الجيش بعد خروجه من المدينة ولم يكن وصل بعدُ إلى شراف، وشراف كانت على
بعد أكثر من ثلاثمائة كيلو متر من أرض فارس، وكانت على بعد خمسمائة كيلو
مترٍ من المدينة؛ فيرسل عمر بن الخطاب رضى الله عنه برسالة
إلى سعد بن أبي وقاص، يأمره بتقوى الله وتجنب المعاصي، ويقول له: إن أخوف
ما يخاف على الجيش هو المعاصي، ويخاف عليه من المعاصي أكثر من خوفه عليهم
من جيش فارس.

فإن وقع الجيش الإسلامي في المعاصي تساوى مع العدو، وعند ذلك فإن الله عز وجل لا
ينظر إلى هذا الجيش الإسلامي؛ فينتصر عندئذٍ أهل فارس عليكم بالعدة
والعتاد؛ لأن عدة وعتاد فارس أشد وأكثر بكثير من عتاد المسلمين، فإذا فقد
المسلمون عامل نصر الله عز وجل ضاع منهم النصر، وبقيت لهم الهزيمة.

سعد يخطب مذكرًا بالإيمان والتقوى:
نتذكر خطبة سعد بن أبي وقاص للجيش الإسلامي في القادسية، نجد أن سعدًا رضى الله عنه قد
ذكرهم بالإيمان، فيقول لهم: آثِروا أمر الآخرة على أمر الدنيا، ولا تؤثروا
الدنيا على الآخرة فتُسلَبوهما. أي لو آثرتم الدنيا فسوف تضيع منكم الدنيا
والآخرة، ولو آثرتم الآخرة على الدنيا، فسوف تجتمع لكم الدنيا والآخرة.

وكل الأمراء الذين قاموا وخطبوا في موقعة القادسية مثل: عاصم بن عمرو التميمي، والهذيل الأسدي، وقيس بن هبيرة، كل هؤلاء الصحابة رضى الله عنهما ذَكَّروا
بالجنة وذكروا بالنصر، وقالوا: إما النصر وإما الشهادة، وأن الجنة على بعد
خطوات من المسلمين. ولو ننظر إلى رسل المسلمين إلى يزدجرد، ورسل المسلمين
إلى رستم نجد أن كل الرسل تجتمع لهم كلمة واحدة أنهم يدعون رستم إلى
الإسلام أو إلى الجزية أو القتال، ويقولون: إن إسلامك أحبُّ إلينا من قتلك
ومن جزيتك. وهكذا نجد حرص الصحابة رضى الله عنهما على أن يدخل الناس في دين الله عز وجل ، يتمنون أن يسلم كل الناس، ولا ينظرون إلى الغنائم أو الأرض أو الملك، إنهم يريدون لهؤلاء القوم أن يهتدوا إلى الإسلام.

وكان
عند أبسط الجنود النظرة نفسها، فهذا الجندي الذي أسره رستم عندما كان
معسكرًا في برس، قال رستم للجندي المسلم: ماذا جاء بكم؟ قال البطل المسلم:
جئنا نبحث عن موعود الله: أرضكم ودمائكم وأبنائكم، إن أبيتم الإسلام.
ولننظر إلى هذا الجندي البسيط من المسلمين، والذي لا نعرف اسمه، وليس
رسولاً حتى يأمن على دمه ومعرض للقتل في أي لحظة، فيقول له رستم: إذن تموت
دون ذلك. فيقول: إذا مت قبل ذلك كان موعدي الجنة، ومن بقي منا ظفر على من
بقي منكم. قال رستم: قد وُضِعنا إذن في أيديكم. فقال البطل المسلم قبل أن
يأمر رستم بقتله: ويحك يا رستم! إن أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها؛ فلا
يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تحاول الإنس؛ وإنما تحاول القضاء والقدر. وكان
هذا هو فكر جندي بسيط، وبعد هذه الحادثة أمر رستم بقطع رقبته، فَقُطِعت
واستشهد رضى الله عنه دون أن نعلم مَن ذلك البطل المجاهد.

كان
هدف الجيش كله الحرص على الإيمان، فكانوا يقبلون على قراءة القرآن يدوون
بالقرآن إذا جَنَّ الليل دَوِيَّ النحل، وحقًّا كان الجيش الإسلامي جيشًا
مؤمنًا، وجيشًا يريد أن يحقق النصر، ويعمل على أن ينال رضا الله عز وجل
حتى يُنزِلَ الله عليه النصر، وحرص سعد بن أبي وقاص في بداية المعركة أن
يقرأ على الجيش سورة الأنفال، يذهب القراء فيقرءون سورة الأنفال فتهش
القلوب، وتبدأ في طلب الجنة، وكانوا يُذَكِّرون المسلمين بموقعة بدر وما
حدث فيها، ونزول سورة الأنفال فيها، وذكرهم سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه بقول:
لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأن يقولوها بقلوبهم قبل
ألسنتهم؛ حتى يعلموا أنه لا نصر ولا معونة ولا مساعدة إلا من الله عز وجل . هذا كان العامل الأول، وهو عامل الإيمان القوي الوثيق بالله عز وجل وهذا قد أدى إلى نصر المسلمين في موقعة القادسية، ولكن النصر لم يكن ليأتي لولا أنْ أخذ المسلمون بالأسباب كاملة.

إن
شاء الله في المقال القادم سوف نذكر كيف أخذ المسلمون بالأسباب في موقعة
القادسية؟ وكيف كانت الخطة الإسلامية ناجحة بأكبر درجات النجاح؟ وعلى هذا
الأساس نجح المسلمون في موقعة القادسية. ثم نذكر بعدها آثار انتصار
المسلمين في القادسية، وهل رضي المسلمون بهذا النصر، واكتفوا به أم أكملوا
خطوات الفتح؟ وما ردُّ فعل الجيش الفارسي على هذه الهزيمة النكراء؟ وما
الموقعة الشهيرة التي ستأتي بعد القادسية؟

________________________________________________
التحرك نحو القادسية 12107010_906912522734669_1561722651500059538_n
حمدي عبد الجليل
حمدي عبد الجليل
المشرف العام
المشرف العام
ذكر عدد المساهمات : 3476
نقاط : 28271
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
التحرك نحو القادسية 1393418480781

التحرك نحو القادسية 140

التحرك نحو القادسية Empty رد: التحرك نحو القادسية

الأحد 29 يناير 2012, 21:39
بعد القادسية

مقدمة

في
الدرس السابق ذكرنا أن هناك معادلة إذا تحققت تحقق النصر، وهي الإيمان
بالله والأخذ بالأسباب؛ فإذا تحقق هذان العاملان تم النصر للمسلمين على من
ناوأهم من المشركين، مهما كانت قوتهم وعدتهم بالمقارنة لقوة المسلمين.

وتحدثنا فيه عن الإيمان بالله، وكيف كان متعمقًا في داخل كل جندي في الجيش من أصغر جندي حتى قائد الجيوش سيدنا سعد بن أبي وقاص، وحتى قائد الأمة الإسلامية في ذلك الوقت سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه فكل
وصية من وصاياه كانت تحمل معنى كبيرًا من الإيمان، وكل رسول إلى يزدجرد أو
غيره من قواد الفرس كان ينقل لهم تلك المعاني، وكل جندي بسيط من جنود
المسلمين كان يحمل الإيمان بين جنبيه ويُفهَم ذلك من كلامه، وكل شيء أمامه
واضح فهو في المعركة يبتغي إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة؛ وبذلك حقق
المسلمون الجانب الأول، والعامل المهم للانتصار في المعركة.

الأخذ بالأسباب من عوامل النصر

ونذكر بإيجاز العامل الثاني في تحقيق النصر، وهو الأخذ بالأسباب:
لقد أخذ المسلمون بكل الأسباب في هذه المعركة حسب طاقتهم، وعملاً بقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
فقد
أعدوا العدة حسب الطاقة، وبدأ المسلمون التجهيز للمعركة في بدايات العام
الخامس عشر الهجري، ووقعت الموقعة في شهر شعبان من العام نفسه، فاستغرق
التجهيز للمعركة تسعة أشهر ونصف.

وقد أعدَّ
سيدنا عمر بن الخطاب لهذه المعركة أكبر قوة للمسلمين، فلم يسمع ببطل من
أبطال المسلمين في الجزيرة العربية إلا ألحقه بهذا الجيش، وأمدَّ الجيش
بالأسلحة والأموال والخيول والعتاد، وألحق بالجيش الأطباء والشعراء
والخطباء، ومن لهم كلمة عند الناس، ومن لهم سطوة وكل أمير، وأرسل في طلب
المدد أيضًا من الشام بعد أن كتب الله النصر للمسلمين في الشام على الروم.
واستنفد كل الطاقات البشرية لتجهيز الجيش الإسلامي في القادسية، وخرج بنفسه
في بداية الأمر على رأس الجيش، لولا أن نصحه الصحابة بالبقاء في المدينة
حتى لا يهلك المسلمون بهلكة عمر بن الخطاب إذا قتل في موقعة القادسية،
واستبدل بخروجه سيدنا سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وخامس من أسلم، وصاحب القدر العظيم في الإسلام.

وبعد الإعداد والتجهيز أخذ المسلمون في وضع خطة مناسبة، وفي وضع الخطة كان هناك آراء من سيدنا عمر بن الخطاب، والمثنى بن حارثة، وكل من دخل أرض العراق أن يكون القتال على أرض الصحراء.
واختار
المسلمون القادسية مكانًا للمعركة رغم شدة هذا الأمر عليهم، فعسكروا في
هذا المكان النائي في الصحراء منتظرين عبور الفرس إليهم ليحاربوهم على
أبواب الصحراء كما وضعت الخطة، رغم بطء تقدم الفرس، فكانت الجيوش الفارسية
تتقدم من المدائن بمعدل كيلو ونصف الكيلو متر في اليوم، إلا أن المسلمين
كان لديهم صبر شديد، ودائمًا ما أرسل سيدنا عمر بن الخطاب الرسائل يحث فيها
المسلمين على الصبر، وكان ذلك حديث الخطباء في القادسية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
فلم يكن هناك همجية في القتال أو عشوائية، بل كان أمر الحرب يسير وفق نظام
معين وأُطُرٍ خاصة، حتى إن بعض المسلمين تحمسوا للعبور للفرس ودخول
المعركة، وكان سيدنا سعد يقابل ذلك بتصبيرهم حتى تأتيهم جيوش الفرس، حتى
إذا هُزِمَ المسلمون -لا قدر الله- تكون الصحراء من خلفهم يفرون إليها،
وإذا هُزِم الفرس -بإذن الله- يكون في ظهرهم الأنهار والمستنقعات والأشجار،
فيجد الفرس الصعوبة في الفرار من هذه الأرض المليئة بالحواجز الطبيعية،
وكان ذلك توفيقًا من الله عز وجل في اختيار الخطة والمكان والتوقيت.

ومن
الأخذ بالأسباب في هذه المعركة إلحاق الكفاءة القتالية للمسلمين في هذه
الموقعة، فالتحق بهذا الجيش أقوى المسلمين كفاءة في القتال، وقد ذكرنا من
قبل الأبطال المشهورين كالقعقاع بن عمرو، وطليحة بن خويلد الأسدي، وعمرو بن
معديكرب، والرُّبَيْل بن عمرو، و
عباد بن بشر
وخالد بن عرفطة، وسيدنا عاصم بن عمرو التميمي وغيرهم، وفي المبارزات
الفردية في بدايات المعركة كان النصر حليفًا للمسلمين، فكانت لديهم مهارات
قتالية بجوار قوة إيمانهم؛ مما جعلهم ينتصرون على أقرانهم من الفرس أيًّا
كان هؤلاء القرناء، وقد قُتِل البيرزان قائد مؤخرة الفرس مبارزةً في بدايات
القتال، وقُتِل أيضًا بهمن جاذويه في المبارزة.

كما
أن من المهارات القتالية التي سجلت في موقعة القادسية دقة الرمي التي
أطاحت بالفيل الأبيض وأصابت الفيل الأجرب، فهذه العمليات توضح كفاءة ومهارة
المسلمين في القتال.

ومما سجل في موقعة
القادسية الشجاعة الفائقة، وفي الحديث عن الشجاعة نذكر موقف طلحة بن خويلد
الأسدي، وإن كان في موقفه شجاعة زائدة قد تكون تهورًا، إلا أننا نذكر أن
الجيش الإسلامي كانت به كفاءات عالية في جميع مجالات القتال.

ومن
ذوي الشجاعة في موقعة القادسية سيدنا عبد الله ابن أم مكتوم الذي نال
الشهادة وهو أعمى، وكان يحمل راية المسلمين، وأصرَّ على حملها في المعركة؛
لأنه لا يستطيع الفرار من المعركة لأنه لا يَرَ.

ونذكر أيضًا شجاعة سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي، وأخيه عاصم بن عمرو في اجتياحهما الجيش الفارسي من العمق.
ومن
الأخذ بالأسباب في موقعة القادسية الابتكارات المتكررة، ومن ذلك ابتكارات
القعقاع بن عمرو في تقسيم الجيش إلى مجموعات؛ لِبَثِّ الحمية في قلوب
المسلمين وبَثِّ الرعب في قلوب الفرس، ثم تسريب الجيش بالليل ومجيئه في
اليوم الثاني في شكل مدد للجيش الإسلامي، ثم الجمال المُبَرْقَعة، ثم الخطط
المتكررة في الموقعة حسب الموقف.

ومن الأخذ
بالأسباب في موقعة القادسية الدقة المتناهية في متابعة الأمور، ومن ذلك ما
حدث أثناء القتال في اليوم الثالث، فقد وصلت أنباء إلى سيدنا سعد بن أبي
وقاص أن هناك مخاضة في يمين الجيش الإسلامي تُمكِّن الجيش الفارسي من
الالتفاف حول الجيش الإسلامي، ولا بد أن يقف عليها أحد المسلمين، فيأمر
سيدنا سعد بن أبي وقاص طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معديكرب بالوقوف
عليها، وذلك أثناء احتدام القتال.

ويلاحظ على
الجيش الإسلامي الطاعة للأمير منذ خروجه من المدينة وحتى وصوله القادسية
وفي أثناء القتال، ولم تظهر مخالفة الأمير ومعصيته إلا في بعض الأمور التي
كانت محدودة للغاية وذكرنا ذلك بالتفصيل، ويكفي الجيش فخرًا أن تعدّ معايبه
وذلك من قِلَّتها.

حكمة القائد

ونذكر
حكمة سيدنا سعد بن أبي وقاص القائد في التعامل مع معصية الجندي للقائد،
وقد أُثِرَ في موقعة القادسية أربعة مواقف لهذه المعصية، وكان ردّ سيدنا
سعد بن أبي وقاص مختلفًا من معصية لأخرى، وذلك بحسب المعصية التي حدثت من
الجندي للأمير.

وأول هذه المواقف استكثار عمرو
بن معديكرب تولي قيس بن هبيرة إمرته، وذلك عندما خرج عمرو بن معديكرب
وطليحة بن خويلد الأسدي في معركة مع الفرس واشتبكوا في القتال، وأرسل سيدنا
سعد قيس بن هبيرة لينقذ المسلمين وأمَّره على الجيوش الإسلامية، فاستكثر
ذلك عمرو بن معديكرب، وقال: إن زمنًا تكون فيه أميرًا عليَّ لزمنُ سوء.
فهذا اعتراض على الأمير ولم يصل إلى المعصية، فرأى سيدنا سعد بن أبي وقاص
أن عمرو بن معديكرب ما زال بنفسه بعض آثار الجاهلية، وكان ردُّ سيدنا سعد
على هذا الأمر بأن لامه على فعلته، ثم أخرجه في جيش تحت إمرة سيدنا قيس بن
هبيرة مرة أخرى كنوع من التربية، ثم قال له: كيف رأيت أميرك؟ فقال: الأميرُ
(يقصد سيدنا سعد بن أبي وقاص) أعلمُ منا بالرجال.

الموقف
الثاني: مخالفة سيدنا طليحة بن خويلد، ومحاربته للفرس رغم نهي سيدنا سعد
بن أبي وقاص له عن الاشتراك في قتال مع الفرس إلا بعد أن يأذن له، فما كان
من سيدنا سعد بن أبي وقاص إلا أن لامه على ذلك بشيء من الرِّقَّة؛ لأنه كان
يعلم أن هذا الأمر يبغي به النصر للمسلمين ولم يكن فيه استكبار على رأي
الأمير، وتأليفًا لقلبه أعطاه سيدنا سعد بن أبي وقاص عطايا فوق ما أخذه من
أنفال، وقال عنه: إنه من أهل البلاء في القتال.

الموقف
الثالث: وكان هذا الموقف في بداية المعركة فقد شغب أبو محجن الثقفي على
سيدنا خالد بن عرفطة، وكان هذا الأمر شديدًا جدًّا على المسلمين، فقد عصى
الأمير في موقف القتال وأمام الفرس، فحبسه سيدنا سعد بن أبي وقاص في قصر
قديس مع شدة حاجة المسلمين إليه؛ وكان من أشد المقاتلين ضراوة، ومن أبسل
المسلمين في القتال، وقد اشترك في الموقعة خلسة من وراء سيدنا سعد بن أبي
وقاص.

الموقف الرابع: وكانت هذه المعصية من
القعقاع بن عمرو التميمي لسيدنا سعد بن أبي وقاص في ليلة الهرير في اليوم
الثالث من أيام القادسية، وكانت معصيته تتمثل في حملته على الفرس بعد
التكبيرة الأولى ولم ينتظر التكبيرة الثالثة، وقد فعل ذلك اجتهادًا منه،
فقد غلب على ظنه هجوم الفرس على المسلمين، وأن في ذلك هلكة للمسلمين، فما
كان منه إلا أن سارع بالهجوم بفرقته على الفرس، فقال سيدنا سعد بن أبي
وقاص: اللهم اغفر له وانصره، قد أذنت له إذ لم يستأذني.

وهذه بعض الأسباب التي اسخلصناها من الموقعة، ومن يُعمِل فكره في كل موقف من مواقف المعركة سيخرج بفوائد ودروس وعِبَر.
الحرب النفسية ضد الفرس:
لقد
هُزِمَ الفرس هزيمة نفسية ساحقة كان لها أثر في هزيمتهم في المعركة،
وتعددت عوامل هذه الهزيمة على الفرس، فمنها: دعوة رسل المسلمين للفرس إلى
الإسلام؛ وكان هذا الأمر شديدًا على نفوس الفرس. ومن أساليب الحرب النفسية
التي اتخذها المسلمون في المعركة أنهم كانوا يبارزون بأشد المقاتلين ضراوة
وبأسًا مما فَتَّ في عَضُدِ الفرس؛ لما رأوا قتلاهم صرعى في بداية المعركة.

ومما
كان له أثر في انهيار عزيمة الفرس وضعف قوتهم قتلى الفرس الذين كانوا في
أرض المعركة، والاستهانة الشديدة بالموت من قِبَلِ المسلمين، ولقد برهن
المسلمون في أكثر من موقف على أن الموت أحب إليهم من الحياة، فكان هذا
الأمر له عامل كبير في نفسية الفرس، ويُفهَم هذا الكلام من مقولة أحد
الجنود -ولم يذكر لنا الرواة اسمه- لرستم: إنك يا رستم لا تُجاول الإنس،
ولكن تُجاول القضاء والقدر. مع أن هذا الجندي كان أسيرًا ولم يكن مؤَمَّنًا
على دمه، وبالفعل قتله رستم واستشهد رضى الله عنه .

الطريق إلى المدائن

ولم
يكن غرض المسلمين من موقعة القادسية أو أي موقعة أخرى إبادة الخصم ثم
الرجوع إلى مكة أو المدينة كما كانت تفعل العرب من قبل، وكما حدث في موقعة
ذي قار، وكانت في مكان قريب من القادسية، وكانت الموقعة الوحيدة التي انتصر
فيها العرب على الفرس، وبمجرد الانتصار عادوا إلى أماكنهم فرحين بما حققوه
من نصر، لكن المسلمين لديهم نية فتح بلاد فارس ونشر الإسلام في ربوعها،
فبمجرد انتصار المسلمين في القادسية بدأ استعداد المسلمين للوصول إلى
(المدائن) عاصمة الفرس وعاصمة آل ساسان، وكانت أعز مدينة هي وعاصمة الروم
في ذلك الوقت.

مكث المسلمون في القادسية شهرين
بعد انتهاء موقعة القادسية، وكانت موقعة القادسية في منتصف شهر شعبان
بداية من يوم الثالث عشر وحتى السادس عشر، وفي هذين الشهرين تمت معالجة
جرحى المسلمين، وبلغ تعداد شهداء المسلمين في القادسية ثمانية آلاف
وخمسمائة شهيد.

وأعاد سيدنا سعد بن أبي وقاص
ترتيب الجيش والجنود، ومن المدينة كان سيدنا عمر بن الخطاب يتابع أخبار
الجيش المرابط في الأراضي الفارسية ويرسل لهم المدد، فقد أصبح فتح الدول
الفارسية وشيكًا بعدما آلت هذه الدولة للسقوط.

وبعد
موقعة القادسية، وهزيمة الجيش الفارسي الكبير الذي بلغ تعداده مائتين
وأربعين ألفًا، وقَتْل معظم قادته؛ فقد قُتِلَ رستم والجالينوس، وقُتِلَ
بهمن جاذوية وقتل البيرزان وكانوا من أعمدة الجيش الفارسي، ولم يبقَ من
قادة الفرس المشهورين في هذه المعركة غير الهرمزان ومهران الرازي
والفيرزان، وقُتِلَ أربعون ألف فارسيٍّ في تلك الموقعة، وكان لذلك الأثر
الشديد على القبائل العربية، فبعض القبائل الذين ترددوا في الخروج من قبل
خرجوا للقتال لمساعدة الجيش الإسلامي في فارس، وبدأت الإمدادات تتوالى على
سيدنا سعد، وقدمت الرسائل من المدينة بالتحرك من القادسية تجاه المدائن
لفتحها، وكان صدور هذا الأمر في شهر شوال من العام السادس عشر من الهجرة،
فتحرك الجيش الإسلامي على التعبئة نفسها التي كان عليها في القادسية، مع
تغيير طفيف، فكان على المقدمة زهرة بن الحُوِيَّة، وعلى الميمنة عبد الله
بن المعتم، والميسرة شرحبيل بن السمط، وكان على قلب الجيش خالد بن عرفطة
الذي كان خليفة سيدنا سعد بن أبي وقاص، وكانت هذه التعبئة في موقعة
القادسية، فأحدث سيدنا سعد تغييرًا طفيفًا فجعل خالد بن عرفطة على مؤخرة
الجيوش بدلاً من مذعور بن عدي، وعلى قلب الجيش سيدنا
هاشم بن عتبة بن أبي وقاص قائد المدد القادم الذي أرسله سيدنا أبو عبيدة بن الجراح
من الشام، وقاد سيدنا سعد بن أبي وقاص الجيش بنفسه بعد أن شفاه الله من
مرضه الذي ألَمَّ به في موقعة القادسية، وقدَّم سيدنا سعد بن أبي وقاص زهرة
بن الحُوِيَّة إلى المدائن مارًّا بمنطقة الكوفة، فكان تحرك الجيش كشكل
القطار المقدمة ثم الميمنة ثم الميسرة ثم القلب ثم المؤخرة، وكان هذا
الترتيب هو الذي يسير به سيدنا سعد بن أبي وقاص من مكان إلى مكان آخر،
لكثرة الجيش الإسلامي، فقد وصل عدد الجيش الإسلامي بعد موقعة القادسية
-وقبل أن يصل إلى المدائن- إلى ستين ألف مقاتل، وهي أكبر قوة إسلامية على
ظهر الأرض، فلم يحدث من قبل أن تجمع هذا العدد للمسلمين.

تقدمت
مقدمة المسلمين بقيادة زهرة بن الحُوِيَّة، وقابلته فرقة فارسية وذلك قبل
أن يصل إلى الكوفة لتقاتل الجيش الإسلامي، وكما يقول الرواة: فاجتاحها زهرة
بن الحوية ووصلت إلى مدينة الكوفة.

وكانت
العرب تطلق على كل أرض حمراء بها حصى صغير الكوفة، وهذا هو المعنى اللغوي
لها، وبعد عام من هذا الوقت أنشأ المسلمون مدينة الكوفة.

وعسكرت
مقدمة المسلمين في مدينة الكوفة ثم وصلت باقي القوات الإسلامية وعسكرت مع
المقدمة، ثم أرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص زهرة بن الحوية مرة أخرى إلى
المدائن باتجاه مدينة (بُرْس)، وكان الجيش يتحرك كتحركه السابق، وقبل أن
تصل إلى "برس" بقليل قابلتها فرقة فارسية أخرى، وكانت هذه الفرقة أكبر من
سابقتها، وكان على رأس هذه الفرقة (بَصْبَهْرِي) وكان من أمراء هذه
المنطقة، وتقاتلت الفرقتين وبارز زهرة بصبهري وطعنه؛ فأصابه ولم يقتله
ولكنه مات بعدها بأيام في بابل، وبمقتل بصبهري هزم الجيش الفارسي في هذه
المنطقة، وتقدمت قوات زهرة بن الحوية إلى مدينة برس، ولما وصلها أتاه
دهقانها -واسمه "بسطام"- بالصلح، وكان جنود رستم قد عاثوا في هذه المدينة
بالفساد أثناء تحركهم من المدائن إلى القادسية، وضجَّ أهل برس بالشكوى إلى
رستم؛ فقال رستم لجنوده: إن فعل العرب في مدينة برس لما دخلوها كان أفضل من
فعلكم أنتم، وأن هذا الفعل سيؤدي بكم إلى الهزيمة. وصدق رستم فقد هزم
الفرس بهذه الأفعال.

ويقع في شمال مدينة برس نهر النيل، وكانت موقعة البويب بقيادة سيدنا المثنى عند التقاء نهر النيل بنهر الفرات.
وكان
هذا النهر عريضًا يصعب على المسلمين اجتيازه، وحتى يستطيع المسلمين عبوره
أقام لهم "بسطام" أمير برس الجسور إظهارًا لولائه وطاعته للمسلمين؛ فعبر
المسلمون من برس إلى منطقة بابل، وكان ذلك غير متوقع لجنود الفرس في هذه
المنطقة التي كان بها تجمع كبير للفرس في انتظار الجيش الإسلامي، ولكن لم
يتخيلوا أن الجيش الإسلامي سيعبر إليهم بهذه السرعة لوجود العائق المائي،
وأراد الله عز وجل غير ذلك وكان ما أراد الله.

علم
زهرة بن الحوية بالتجمع الكبير في منطقة بابل؛ فقد أبلغه بذلك بسطام دهقان
برس، فأرسل سيدنا زهرة بذلك إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص، وكان على رأس هذا
التجمع الفيرزان الذي أصبح قائدًا عامًّا للجيوش الفارسية بعد مقتل رستم،
وتعاهدت الجيوش الفارسية في بابل على الثبات وعلى الطاعة للفيرزان والقتال،
وكان تحت إمرته في هذه الموقعة الهرمزان، والنخيرجان وكان من المفترض أن
يتولى مكان بهمن جاذويه إلا أنه هرب من القادسية، ومهران الرازي، فكان
بمنطقة بابل أكبر أربعة قواد في الدولة الفرسية، وقد تعاهدوا على عدم
الفرار.

وكل هذه الانتصارات حققتها المقدمة
الإسلامية فقط، وتقدمت المقدمة الإسلامية إلى بابل، واشتبكت في بابل مع جيش
الفيرزان الذي تعاهد على عدم الفرار، وقبل أن يصل باقي الجيش الإسلامي
هزمتهم المقدمة شر هزيمة، يقول الرواة: لقد هزمهم المسلمون في أقل من لفة
الرداء. وبعد هزيمتهم في بابل هرب الفرس ليتجمعوا في كُوثَى في شمال بابل،
واستنجد الجيش الفارسي في بابل بالجيوش الفارسية الأخرى في المناطق
المجاورة للدفاع عن كُوثَى، ولم تكن الفكرة في الاستنجاد بالقوات الفارسية
للدفاع عن كُوثَى، بل كانت لإعاقة المسلمين عن التقدم إلى المدائن، فبعد
فتح بابل لم يكن بين المسلمين والمدائن سوى خمسين كيلو مترًا، بينما تبعد
مدينة كُوثَى أربعين كيلو مترًا فقط من المدائن.

ومن المدينة يضع سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه خطة
لفتح المدائن، ورأى سيدنا عمر أن تجمُّع الفرس في كُوثَى فيه شدة على
المسلمين، ففكر في فتح جبهة للقتال حتى يشتت قوى الفرس، وكانت مختلفة
تمامًا عن خطة القادسية، فكانت خطة سيدنا عمر بإرسال
عتبة بن غزوان إلى منطقة الأُبلَّة، وقد جرت بها موقعة من قبل، وكانت تسمى كاظمة ثم سمِّيت ذاتَ السلاسل بعد ذلك، وكان قائد المسلمين فيها سيدنا خالد بن الوليد رضى الله عنه ،
وكان النصر حليف المسلمين في هذه الموقعة، لكن قبل موقعة القادسية عمل
سيدنا سعد بن أبي وقاص على جمع الجيوش الإسلامية المتواجدة في أرض فارس إلى
القادسية، فتخلى المسلمون عن الأُبلّة، ووقعت في أيدي الفرس مرة أخرى،
ونجحت خطة سيدنا عمر بن الخطاب ففتح الأبلة ببساطة شديدة، لكن الأهم من ذلك
فقد استطاعت هذه الفرقة الصغيرة التي توجهت إلى الأبلة سحب جزء كبير من
الجيش الفارسي بقيادة الهرمزان للدفاع عن الأبلة؛ فكانت الباب للدخول إلى
منطقة الأهواز التي يحكمها.

ولما اقترب
المسلمون من كُوثَى وشعر الفرس بالهزيمة التي ستلحق بهم اجتمع أصحاب الرأي
من قادة الجيش الفارسي فاتفقوا على أن يذهب الهرمزان للدفاع عن أرضه ومكان
حكمه، وعلى أن يذهب الفيرزان إلى منطقة نهاوند التي تقع في أعماق الدولة
الفارسية، وكانت بها معظم كنوز كسرى، وكان قد نقلها لما شعر بقدوم المسلمين
إلى المدائن، وانسحب مهران الرازي والنخيرجان إلى المدائن للدفاع عن
المدائن وتركوا في منطقة كُوثَى شهريار أحد قادة الفرس الشجعان؛ ليدافع
عنها ويعوق مسير المسلمين إلى المدائن.

ومرت
مقدمة المسلمين بمنطقة تسمى الصراة، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا سريعًا
على فرقة فارسية صغيرة، ثم تقدمت نحو كُوثَى، فالتقت المقدمة مع جيش شهريار
قائد الجيش الفارسي في هذه المنطقة، فخرج ليبارز وكان رجلاً ضخم الجثة،
فنادى في المسلمين قائلاً: ألا فارس منكم شديد عظيم يخرج إليَّ حتى
أُنَكِّلَ به. فقام إليه زهرة بن الحُوِيَّة، وقال له: والله كنتُ سأخرج
لك، ولكن سأخرج لك عبدًا حتى إذا فررت منه تكون فررت من عبد، وإذا قتلك
يكون قتلك عبدٌ؛ قاصدًا إهانة شهريار، وليس في الإسلام فرق بين عبد وسيد،
ولكن قصد بذلك بَثَّ الرعب والهلع في قلب هذا القائد وقلب جيشه، فخرج له
سيدنا أبو نباتة بن جعشم الأعرجي وكان رجلاً شديدًا أيضًا، ويحكي الرفيل بن
عمرو الفارسي الذي أسلم، فيقول: كان شهريار مثل الجمل، فلما رأى أبا نباتة
ألقى الرمح ليعتنقه، وألقى أبو نباتة رمحه وانتضيا سيفيهما، واجتلدا به ثم
اعتنقا وتصارعا فخرَّا عن فرسيهما، ووقع شهريار على أبي نباتة كالبيت
فضغطه بفخذه، وبدأ بحل رداء أبي نباتة، فوقع إبهامه في فم أبي نباتة؛ فقضمه
حتى حطم عظامه، فخارت قوته فحمله أبو نباتة، وأخذ خنجره، وكشف عن بطنه،
وطعنه عدة طعنات حتى قُتِلَ، وبمقتل شهريار انهزم الجيش الفارسي وتفرق
الجنود في البلاد.

وتقدمت الجيوش الإسلامية
بعد الانتصار في كُوثَى إلى ساباط، وقبل الوصول إلى ساباط كانت توجد فرقة
تسمى فرقة بوران (وبوران بنت لكسرى، ووليت عرش فارس في فترة من الفترات،
وكانت من أحكم النساء الفارسيات) في ضاحية من ضواحي ساباط تسمى مظلم ساباط،
وسميت بهذا الاسم لكثافة الأشجار التي تمنع أشعة الشمس من الوصول إلى هذا
المكان، وكانت فرقة بوران إحدى الفرق الملكية التي كانت تقسم كل يوم قبل أن
تنام وتقول: لا يزول عرش فارس ما عشنا. وكان مع هذه الفرقة أسد مدرب على
القتال، وأطلقه الفرس على المسلمين في منطقة ساباط، فتقدم هاشم بن عتبة بن
أبي وقاص إلى الأسد بقلب لا يعرف الخوف، وقتله بعدة طعنات وأرداه قتيلاً،
وأثَّر قتل الأسد على كتيبة بوران تأثيرًا شديدًا التي كانت تقسم ألا يزول
عرش فارس ما عاشوا، وثبتت كتيبة بوران لقتال المسلمين ولم تفر حتى قتلت عن
آخرها، وبعد انتصار المسلمين على كتيبة بوران وقتل الأسد يرسل سيدنا سعد بن
أبي وقاص إلى هاشم بن عتبة ويقبّل رأسه تكريمًا له، فينحني هاشم ويقبّل
قدم سيدنا سعد بن أبي وقاص ويقول له: ما لمثلك أن يقبل رأسي.

فتح المدائن

بعد
الانتصار الساحق الذي حققه المسلمون تقدموا نحو المدائن، ولم يكن بينهم
وبينها سوى ثلاثين كيلو مترًا، وكان الطريق خاليًا من أي فرق فارسية. وقبل
أن نخوض غمار الحديث عن فتح المدائن نذكر نبذة عن المدينة، وسبب تسميتها
بهذا الاسم.

"المدائن" : جمع مدينة فهي عبارة
عن سبع مدن، وكانت عاصمة آل ساسان فترة طويلة من الزمان، وتقع خمس مدن منها
في غرب نهر دجلة، ومدينتان في شرق النهر:

-
مدينة (بَهُرَسِير) وهي أقدم وأكبر المدن السبعة، وعليها سور كبير وحصين،
ومن أشد المدن قوة، وكانت تسمى "المدينة الدنيا"، وكانت المدينة السابعة
تسمى "المدينة القصوى" في شرق نهر دجلة.

- مدينة (ماخوذة) وهي متاخمة لمدينة بَهُرَسِير، وتقع في جنوبها على نهر دجلة.
- مدينة (درزنيرزان) وهي في شمال منطقة بَهُرَسِير وكأنها داخله.
- مدينة (ملاش أباد) في جنوب مدينة بَهُرَسِير.
-
مدينة (سلوقية) وتقع في الشمال في غرب نهر دجلة، وقد أنشأها شيرويه كسرى
فارس على غرار مدينة (أنطاكية) الرومية، وقد أنشأها لما انتصر على الروم في
حربه معهم، وكانت سلوقية تماثل مدينة أنطاكية تمامًا، حتى إن كل بيت في
أنطاكية له شبيه في سلوقية، وأطلق فيها الحرية الدينية، وبَنَى فيها كنيسة
تشبُّهًا بها، وكان فيها تجمع كبير من النصارى، وكان بها فرقة يهودية.

-مدينة (طَيْسَفُون) مقابل مدينة سلوقية.
-مدينة
(أسفنابر) وكانت من أهم المدن في مدينة المدائن؛ لأن بها إيوان كسرى
وبداخله عرش كسرى، وكان حولها سور ضخم للغاية، وكان بها غابات كثيرة، وفي
المنطقة الشرقية منها ساحة للغزلان ليصطاد كسرى منه، ويفصل نهر دجلة بين
هذه المدن، ويوجد بين بَهُرَسِير وأسفنابر جسر عائم؛ ليقطعه الفرس متى
أرادوا، وقد قطعوه بالفعل بعد انسحاب مهران الرازي والنخيرجان إلى داخل
المدينة القصوى ليقطعوا الطريق على المسلمين، وليعملوا على عدم تمكينهم من
العبور إلى المدائن، وكان بداخل الإيوان يزدجرد الثالث كسرى فارس ظنًّا منه
أن المسلمين لن يستطيعوا الوصول إلى هذا المكان الحصين.

وكانت
منطقة المدائن التي دخلها المسلمون بكل يسر وسهولة، ممنوعة من الدخول
للأجانب من نطاق يحيط بها يصل قطره إلى مائة وسبعين كيلو مترًا، وبعض
الأماكن إلى مائتي كيلو مترٍ.

وكان بها خمس
مدن محيطة بها على بُعْدٍ عظيم، فالقادم من الغرب يتوقف عند مدينة معينة،
والقادم من دمشق يتوقف عند مدينة هيس على بُعد نحو مائةٍ وخمسين كيلو مترًا
من المدائن، والقادم من الجزيرة العربية يتوقف عند (عُذَيْب الهَجَّانَات)
جنوب القادسية على بعد مائة وسبعين كيلو مترًا من المدائن، والقادم من
الشرق يتوقف عند مدينة حلوان على بعد مائتي كيلو مترٍ من المدائن، ولا
يستطيع الدخول إلى المدائن إلا بإذن خاص، وكان لا يدخل إيوان كسرى إلا عدد
قليل جدًّا، ومنهم سيدنا
المغيرة بن شعبة رضى الله عنه من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المفاوضات والمناقشات دخل أربعة عشر مسلمًا، وكانوا رسلاً إلى يزدجرد.
وباقتراب
الجيش الإسلامي تجاه المدائن سقطت مدينتا (ماخوذة) و(ملاش أباد)، فقد
تركها أهلها متجهين إلى بَهُرَسِير، وبدأ الفرس في تجهيز العُدَّة لقتال
المسلمين، وفوجئ المسلمون بالأسوار الضخمة العالية والأبراج الحصينة عندما
وصلوا إلى مدينة بَهُرَسِير، وبين الحين والآخر كانت تخرج بعض الفرق
الفارسية على أبواب الحصن لقتال فرقة من المسلمين، ثم ترجع إلى الحصن مرة
أخرى، وكان المسلمون يصيبون كثيرًا من هذه الفرق التي تناوِئُهم، وشدد
المسلمون الحصار على مدينة بَهُرَسِير، واستمر الحصار شهرين كاملين، ورغم
شدة الحصار والضوائق التي مرت بهم لم يستسلم أهلها -كما يقول الرواة- حتى
أكلوا الكلاب والسنانير (جمع سِنَّوْر: الهِرُّ) من شدة الحصار المفروض
عليهم، حتى توصل المسلمون إلى سلاح جديد لم يستخدموه من قبل، واستخدموه
لأول مرة في
فتوح فارس، وكانت له نتائج كبيرة منها انتصار المسلمين على هذه المدينة التي تقع على باب المدائن.

________________________________________________
التحرك نحو القادسية 12107010_906912522734669_1561722651500059538_n
الرجوع الى أعلى الصفحة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى